تداعيات الانقسام في "إسرائيل" على أميركا
ليلى نقولا
هذا الانقسام الداخلي والخارجي الإسرائيلي سيؤدي إلى إضعاف "إسرائيل" وصورتها في الخارج كـ "دولة يهودية ديمقراطية تتعرّض لمخاطر أمنية من جيران لا يريدون لها العيش" (كما يتم تسويقها غربياً ويهودياً).
ما زالت تداعيات الانقسام الإسرائيلي حول مشروع نتنياهو لإصلاح القضاء تتزايد داخل "إسرائيل" وخارجها، حتى وصلت إلى الولايات المتحدة الأميركية. ففي أمر نادر الحصول، برز خلاف أميركي – إسرائيلي إلى الإعلام، بعد انتقادات أميركية علنية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولمشروع الإصلاح القضائي الذي أدى إلى انقسامات داخل "إسرائيل" وإلى انقسام مماثل داخل الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة.
فما تأثيرات هذه التطوّرات غير المسبوقة؟
1-انتقاد أميركي علني
انتقد الرئيس الأميركي جو بايدن الحكومة الإسرائيلية، ودعا نتنياهو إلى التخلّي عن مشروع إصلاح القضاء الذي يواجه حركة احتجاجية واسعة. الأمر الذي استدعى رداً من نتنياهو الذي اعتبر أن "إسرائيل دولة ذات سيادة، تصدر قراراتها عن إرادة شعبها ولا تستند إلى ضغوط من الخارج حتى عندما تأتي من أفضل أصدقائها".
ورداً على تصريحات بايدن، أخرج اليمين الإسرائيلي أنصاره إلى الشارع ورفعوا شعارات مندّدة بالتدخّل الأميركي، وهتفوا بشتائم نابية ضد بايدن وإدراته واصفين إياهم بـ "اليساريين الخونة".
تاريخياً، تطوّر حجم الدعم الأميركي المالي والعسكري والتكنولوجي والسياسي لـ "إسرائيل" مع وصول الرئيس الأميركي ليندون جونسون إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي في تشرين الثاني/نوفمبر 1963. وكان وصول جونسون نقطة تحوّل رئيسية في تاريخ العلاقات الأميركية ــ الإسرائيلية التي شهدت توتراً كبيراً في عهد الرئيس أيزنهاور الذي اتخذ موقفاً سلبياً من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
كان لموقف أيزنهاور الرافض للعدوان على مصر، والذي أجبر الإسرائيليين على الانسحاب من سيناء، أثر كبير في المقاربة الإسرائيلية لعلاقاتهم الخارجية. فقد أدرك الإسرائيليون في ذلك الحين أنهم لن يستطيعوا التحرّك بحرية وفرض شروطهم في الشرق الأوسط، إلا إذا ضمنوا التأييد الأميركي، وأن الدور الأميركي ستكون له أولوية مع أفول عهد الاستعمار الأوروبي القديم.
ومنذ عهد رونالد ريغان تحوّلت المساعدات الأميركية إلى "إسرائيل" إلى "هبات". وتعتبر "إسرائيل" أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات الخارجية الأميركية على الإطلاق في العالم، فقد بلغت قيمة المساعدات الأميركية لـ "إسرائيل" حتى شباط/فبراير 2022، 150 مليار دولار أميركي كمساعدة ثنائية.
ولا يختلف الدعم الأميركي لـ "إسرائيل" بين الإدارات الجمهورية والديمقراطية، فقد وقّعت إدارة بيل كلينتون "الديمقراطية" عام 1999 مذكّرة تفاهم التزمت من خلالها بتزويد "إسرائيل" بما لا يقل عن 2.67 مليار دولار من المساعدات العسكرية سنوياً، على مدى السنوات العشر التالية. وفي عام 2009 تم رفع المبلغ السنوي إلى 3 مليارات دولار أميركي، أما في عام 2019 فتمّ رفع المبلغ مرة أخرى ليقف الآن عند مستوى لا يقلّ عن 3.8 مليارات دولار أميركي تلتزم الولايات المتحدة بتقديمها لـ "إسرائيل" كل عام.
2- انقسام الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة
انسحب الانقسام الإسرائيلي الداخلي حول مشروع نتنياهو المتعلّق بإجراء تعديلات على النظام القضائي، وتهميش المحكمة العليا انقساماً مماثلاً داخل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية.
ونسبياً، يشكّل اليهود الأميركيين المعارضين لنتنياهو النسبة الأكبر (يعارضه اليهود المعتدلون ويقدّرون بـ 35% من يهود أميركا، وكذلك اليهود غير المتدينين ونسبتهم 37%) بينما يؤيّد اليهود المتشدّدون نتنياهو وهؤلاء تصل نسبتهم إلى 28% من يهود أميركا.
ويقدّر عدد اليهود الأميركيين بنحو 6 ملايين شخص يجمع بينهم واجب دعم "إسرائيل" ومصالحها الأمنية وضمان استمرار الدعم الأميركي لها، ويتميّزون بالشعور العميق بالتضامن الوجداني مع الدولة العبرية. ويرتكز هذا الشعور على "عقدة ذنب تاريخية" تقوم الأجهزة الصهيونية باستغلالها إلى أقصى الحدود، وتنبثق عقدة الذنب هذه من عوامل عديدة أبرزها:
أولاً: لطالما شعر اليهود الأميركيون بالتقصير حيال اليهود الأوروبيين إزاء ما حصل لهم في زمن الهولوكوست النازي، وبالتالي هم لا يريدون لهذ التقصير أن يتكرّر مع اليهود المقيمين في "إسرائيل" والمحاطين "بأعداء إرهابيين يريدون إبادتهم" كما تسوّق الدعاية الصهيونية في العالم.
ثانياً: يريد اليهود الأميركيون توفير ظروف معيشية أفضل لليهود القاطنين في "إسرائيل"، وألّا تتكرّر معهم المأساة التي حلّت بالهاربين من أوروبا، الذين عاشوا في "غيتوهات فقيرة مذلّة" في أميركا، وقد طال بهم الزمن حتى استطاعوا الانخراط في المجتمع اليهودي الأميركي.
ثالثاً: لا يود اليهود الأميركيون مغادرة أميركا للإقامة في "إسرائيل"، بل يتمسّكون بحياتهم الأميركية الآمنة والمستقرة، ما يخلق لديهم شعوراً بـالدَين تجاه يهود "إسرائيل"، ويدفعهم إلى التعويض عن ذلك بمختلف أشكال الدعم والمساعدة والتحرّك من أجل استقرار الدولة العبرية الأمني والاقتصادي.
ولدعم "إسرائيل"، تُباح لدى اليهود الأميركيين كل الوسائل المتاحة منها: المال، صنع الأفكار وترويجها الإعلامي، الصوت الانتخابي، إضافة إلى سياسة الثواب والعقاب المطبّقة على مَن لا يماشي اللوبي اليهودي، والتي تندرج فيها كل أساليب الإثراء والإفقار والترهيب والترغيب والترقية والمحاصرة.
وفي هذا المجال يقول بول فندلي الذي أمضى 22 سنة في مجلس النواب الأميركي "إن السياسيين والمفكرين والجامعيين والصحافيين يفعلون كل ما في وسعهم لعدم ظهور أسمائهم ضمن "قوائم الأعداء" التي يُصدرها اللوبي اليهودي في أميركا، ومنها اللائحة المسماة "الحملة لتشويه سمعة إسرائيل" التي يصدرها اللوبي اليهودي الأكثر شهرةً في الولايات المتحدة (إيباك)".
وهكذا، وبالنظر الى موقع اليهود في أميركا، واهتمامهم المفرط بالسياسة الخارجية وممارسة الضغوط على الكونغرس، وتشكيل حركات ضاغطة في الجامعات والإعلام والسينما والصحف وغيرها، يفرض اليهود تصوّراتهم الخارجية في مواضيع الشرق الأوسط على كل من الكونغرس بحزبيه، والإدارات الأميركية في ما يخص قضايا الشرق الأوسط.
بالنتيجة، إن هذا الانقسام الداخلي والخارجي الإسرائيلي سيؤدي إلى إضعاف "إسرائيل" وصورتها في الخارج كـ "دولة يهودية ديمقراطية تتعرّض لمخاطر أمنية من جيران لا يريدون لها العيش" (كما يتم تسويقها غربياً ويهودياً).
لكن، من دون شك إن هذا التوتر الحالي بين بايدن ونتنياهو لن يلغي العلاقة الجيدة والوطيدة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة، إلا أنه مؤشر على احتمالات تبدّل في تلك العلاقة مستقبلاً، والتي كان الإسرائيليون يعتقدون أنها لا تتغّير مطلقاً، لدرجة أن السفير الإسرائيلي في واشنطن داني أيالون قال خلال حرب تموز 2006، "حتى لو ارتكب جيشنا مجازر جماعية في لبنان، فسيبقى دعم الولايات المتحدة لنا كما هو".