الثورة الإسلامية.. وبصيرة القيادة
أحمد فؤاد
كثيرون كتبوا في محاولة وضع تعريف لمعنى القائد وقيمته في حياة أمته. ربما يكون أفضل من قدم هذه الفكرة بأبسط الأشكال وأقربها للصحة هو الكاتب الإنجليزي الشهير جوناثان سويفت، وهي أن القيادة بصيرة في المقام الأول. وفي تعريف البصيرة قال إنها "فن رؤية ما لا يستطيع الآخرون رؤيته"، ليقدم لنا الرجل اختبار ورقة عباد الشمس، قاطعة في حكمها وكاشفة بنتيجتها على الأشخاص والسياسات.
يبقى شهر نيسان/ أبريل تاريخًا مجيدًا في منطقة الشرق الأوسط، عنوان صناعة أهم تغيير في المنطقة وبأيدي أبنائها ولمصلحتهم، بعد أن كانت المنطقة مجرد مسرح لممارسة الإرادات الغربية ومستنقعًا لصدامها، وحكامها قبل شعوبها دمى بين أقدام الدول الكبرى، تركلها أو تستحوذ عليها متى شاءت وأنى شاءت. للمرة الأولى خرج شعب يكسر الطوق الجهنمي، ويصنع بقائده طريقًا جديدًا مغايرًا، يستمد قوته من هويته وإيمانه، ويثبت أن الشعوب العربية والإسلامية قادرة على أن تتحول في المعادلة من مفعول به إلى فاعل أصيل.
عرف القائد مبكرًا جدًا أين يكمن أهم تحديين أمام العالم الإسلامي للنهوض ومقارعة الهيمنة العالمية، أولًا بتجذير هذا العداء في كل قلب، والوصول بمقاطعة قوى الشر والاستكبار للحد الأقصى، وهو ما حمله الشعار الثابت للثورة "أميركا هي الشيطان الأكبر"، كتصوير حي يطرح أمام الأمة في كل لحظة وأمام كل أزمة حقيقة ثابتة لا يمكن تجاوزها، وهو أن ما يأتي من واشنطن شر مطلق لا خير فيه.
التصرف الثاني الدال على شخصية الإمام القائد، كان ملحمة وطنية عظمى، استنادًا إلى الإرادة الشعبية الحرة في لحظة تجليها، والدفع إلى استفتاء في "12 فروردين" الموافق 1 نیسان/ أبریل، بموافقة شعبية ساحقة على تأسیس نظام "الجمهوریة الإسلامیة".
باعتماده الشعب كمصدر أول للشرعية الثورية، وبطرحه النظام الجديد في استفتاء حر، رسخ القائد مسيرة الجمهورية الإسلامية كما نراها اليوم، فالدولة التي قامت عقب الاستفتاء كانت تعبّر عن الشعب وتعكس مصالحه وأمنياته وتطلعاته الكبار. كان القائد يضع بهدوئه ودأبه المعروفين عنه تعريفات جديدة لقيم راسخة وباقية على سياسة الجمهورية الإسلامية، وأثبت الإمام ببصيرته السليمة وإيمانه وفكره على قدرة العقيدة على تطويع السياسة، وليس العكس، كان الإمام يقدم لشعوبنا درسًا بليغًا، في ظل عداء غربي مستحكم، وحمل راية الدين والوطن والناس بجلال الحق وعبقرية الموقف وثبات المبدأ.
القائد الذي وضعته الجماهير الشعبية كأمين على طموحها وصاحب الخطوة الأولى في طريق تحقيق أمانيها، كان المثال الأروع للعدل والإنصاف، ورمزًا عاليًا للسمو الإنساني، وقدوة في كل تصرفاته وقرارته، لا يعرف مهادنة مهما واجه من عواصف في بحر الشرق الأوسط، الهائج دائمًا والهائج بعنف، وفي أحلك اللحظات حين بدأت المؤامرة الأميركية الدموية لكسر الجمهورية الإسلامية، بدفع صدام حسين إلى شن حرب عدوانية "حرب الخليج الأولى"، فقد كان هو المدد والسند لأبنائه ممن اندفعوا إلى ساحات الدفاع المقدس، يبتلعون مؤامرة الأعداء ويسقطونها.
فهم القائد أن الانكسار أمام مؤامرة كونية، يشارك فيها الغرب كله والاتحاد السوفييتي وفرنسا وغيرها، لدعم صدام بأحدث وأفتك ما في ترساناته من السلاح، يترك الشعب الإيراني لنفسه، وبالتالي فإن هذا الشعب إذا أحسن إعداده إيمانيًا، وتوفرت ضروريات الصمود، فإنه سينتصر لا محالة، فالدول تستباح والشعوب تكسر حين تشعر أنها في جهة وقيادتها في جهة أخرى، أما في إيران فقد كان الالتحام الوطني في مواجهة الحرب تفاعلًا خلّاقًا بين الشعب والحكم، يدرك أنه مستهدف وأنه يحارب في الخندق ذاته، لا لمصلحة نظام، لكن لمستقبل أمة.
لم يكن غريبًا أن تصمد إيران سنوات الدم الثمانية أمام آلة الحرب الغربية التي قادها صدام، ولم يكن غريبًا أن يسقط صدام نفسه على أيدي من خدمهم سنوات طوال، ولم يكن مشهد دخول الجيش الأميركي لبغداد دون مقاومة من جيش فقد قائده وشعب ضاعت بوصلته وتبددت ثقته إلا النار التي أراد صدام إشعالها فحرقته في النهاية، ذليلًا مهانًا، من أسره في حفرة إلى إعدامه يوم عيد الأضحى، كرسالة دموية لغيره من حكام العرب.
ما فعله الإمام الخميني –قده- في إيران كان تأسيس القاعدة التي انطلقت بعدها من الدفاع إلى الهجوم، ومن الصمود أمام الحصار إلى قهره تمامًا. اليوم تحولت طهران إلى قبلة المشرق والمغرب، ها هي الرياض تسعى لإذابة جبال الجليد وتحاول فتح طريق تواصل مع الجمهورية، وابتلعت لسانها الذي طالما لم ينطق إلا فتنة وكذبًا، ومدت أيديها التي طالما حرضت وجيشت ودفعت بها لمحاولة خلق ثغرة لأسيادها ومشغليها بواشنطن نحو قلب إيران.
اليوم يتحول العدو الصهيوني أمام إيران إلى ظاهرة صوتية، لا تنطلي على أحد، منذ أسابيع طويلة يحاول سياسيوها وعسكريوها وأعضاء حكومتها المتشددة الإيحاء بأن ضرب المواقع النووية الإيرانية قريب، ونشرت الصحف الصهيونية الشيء الكثير عن تفاصيل تدريب "Juniper " مع القوات الجوية الأميركية، والتي يحاكي بها سلاح طيران العدو شن ضربة شاملة ضد "كل" المواقع الإيرانية النووية، آراك، فوردو، نطنز، بوشهر، بارتشين، قم.
العدو –قبل الصديق- يعلم جيدًا أن نتائج ضربة أميركية شاملة على المواقع النووية الإيرانية غير ممكنة، بسبب مواقعها، والجاهزية العالية والفاعلية المؤكدة لشبكة الدفاع الجوي الإيرانية، إضافة إلى أن ضربة صهيونية قد تحمل معها النهاية الكاملة لوجود هذا الكيان، فالسياسة الإيرانية أثبتت طوال 4 عقود أنها لا تهدد بما قد تفعله، لكنها قادرة وترد ولا مجال عندها لابتلاع الضربات.
لماذا هذا الحديث الآن؟ ولماذا يتوجب على كل عربي أن ينظر ويتابع ما يجري في المنطقة اليوم؟ إن الثورة الإسلامية، والتي تنثر الإلهام على شعبها وعلى غيره اليوم، بمبدأ استقلالية الفكر واستقلالية القرار الوطني، هي فكرة حل قادرة، في اتجاهها السليم وفي وقتها المناسب، وهي في الدور الذي قدمته الثورة والإمام الخميني –قده- في أن تتخذ لنفسها موقفًا واضحًا يتوقى الهيمنة الأميركية وترفض سيطرة نموذجها على الحياة، مجهودًا مخلصًا يستحق الاحترام ويستوجب التقدير والمساندة.
كانت سيرة الإمام الخميني –قده- وستستمر، صفحات الأيام الأفضل التي مرت على الأمة، وستظل تقدم الرؤية والتضحيات وإمكانيات البناء على مر الأجيال وتعاقب السنوات.