الزعامة العالمية من الولايات المتحدة إلى الصين
د. عدنان منصور
ما حققته الصين على يد زعيمها شي جين بينغ، بنجاح مساعيها لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، هو نتيجة المكانة الرفيعة، والصدقية الكبيرة التي تتمتع بها الصين في عالمنا العربي، وفي دول العالم كله.
نهضة الصين العظيمة التي بدأت عام 1978 على يد دين سياو بينغ، مروراً بجيانغ زمين، وصولاً الى الزعيم الحالي شي جين بينغ، على كافة المستويات السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والتجارية، والعسكرية، والعلمية، والمعرفية، جعل منها قوة عظمى، يرى فيها العالم موضع الثقة، والتعاون المشترك البناء.
ما يميّز الصين عن الدول الغربية الكبرى، هو أنّ الصين لم تحتلّ بلداً، كما فعلت الدول الاستعمارية، ولم تستغلّ وتستعبد شعوبها، ولم تمارس التمييز العنصري بحقها. فمنذ تأسيس جمهوريتها عام 1949 على يد زعيم ثورتها ماو تسي تونع، وتخلصها من الاستعمار الياباني، مدّت الصين يد التعاون الى دول العالم، دون قيد أو شرط. لم تستغلّ، لم تطح بالأنظمة السياسية أياً كان نوعها، ولم تحرك الفتن والمؤامرات على الشعوب، ولم تكن وراء الانقلابات العسكرية التي أطاحت بأنظمة وطنية عديدة في أكثر من مكان، ولم تقم مخابراتها باغتيال رؤساء دول في أنحاء مختلفة من العالم كما فعل غيرها من دول الهيمنة والاستبداد. لم تشنّ الحروب على الدول ولم تقم بفرض العقوبات الظالمة على الشعوب، أو نهب الدول وثرواتها.
لقد أطلّت الصين على العالم بوجه جديد، يحمل للعالم فكراً ونهجاً وأسلوباً وتعاطياً جديداً مبنياً على التعاون والتفهّم المشترك، والمنفعة المتبادلة، واحترام خصوصية أنظمة الحكم في بلدان العالم، دون الانغماس في شؤونها الداخلية.
لم يسبق أن تعرّضت دولة لعمل عسكري من قبل الصين، مثل ما تعرّضت شعوب أميركا اللاتينية كلها، ودول في أفريقيا وآسيا وأوروبا، لعمليات عسكرية، وحروب، وعقوبات، وحصار، وزعزعة الأوضاع فيها، وبث الخلافات والعداوات داخلها.
مقابل استغلال ثروات دول العالم من قبل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، لجأت الصين الى سياسة مغايرة تماماً، وهي سياسة الاستثمار وتقديم المساعدات، والهبات، والمعونات، وتعزيز العلاقات السياسية والتجارية معها، والقيام بتنفيذ المشاريع التنموية الضخمة، وزيادة الاستثمارات، حيث وصلت عام 2017 في أفريقيا وحدها الى ما يزيد عن 220 مليار دولار.
كما أنّ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط بلغ 507 مليارات دولار عام 2022. وحجم التبادل التجاري مع العالم العربي وصل في العام نفسه الى 330 مليار دولار، منها 88 مليار دولار مع المملكة العربية السعودية، 33 مليار مع العراق، و20 مليار مع مصر. كما بلغ رصيد الاستثمار المتبادل الصيني والعربي 27 مليار دولار.
مما لا شك فيه، أنّ ما يميّز الصين عن غيرها من دول الغرب الكبرى وبالذات الولايات المتحدة، هو أنّ الصين تحظى بثقة كبيرة، واحترام شديد من قبل الذين يتعاطون معها، أياً كانت أنظمة دولهم، وعقائدها السياسية.
إذ استطاعت الصين على مدى عقود أن تسير بخطى ثابتة،
تتوخى إقامة أفضل العلاقات، وعلى مختلف المستويات حيث استطاعت أن تجمع الدول بأنظمتها المختلفة، وقومياتها المتنوّعة حولها، وأن تعزز من حجم صادراتها التجارية معها، لتصبح عام 2017 في المرتبة العالمية الأولى، حيث بلغت صادراتها التجارية 2 تريليون و447 مليار دولار، متجاوزة الصادرات الأميركية التي بلغت 2 تريليون و100 مليار دولار، أيّ بزيادة 347 مليار دولار.
ان تقوم الصين بدور الوسيط بين السعودية وإيران، وأن تنجح في تذليل العقبات لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فهذا إنجاز كبير بعد سنوات من القطيعة، ومن الحملات الإعلامية والاتهامات المتبادلة، التي لا تصبّ إلا في صالح من لا يريد التواصل بين دول المنطقة، وبالذات بين الرياض وطهران، وبين القاهرة وطهران. لأنّ أيّ تقارب وتعاون، وتنسيق سياسي وأمني واقتصادي وتجاري، يغيّر وجه المنطقة، ويحصّنها أمام المؤامرات، والتدخلات السافرة للقوى الخارجية.
نجاح الصين في مهمتها، سيفسح المجال لها، للسير بعيداً في المستقبل، كي تكون فعلاً صلة وصل بين الدول التي تشهد الخلافات، والنزاعات في ما بينها.
إنّ عودة العلاقات بين الرياض وطهران، مقدمة ضرورية ومهمة جداً، لإعادة النظر في سلوك وسياسات ومواقف، وخيارات كلّ طرف، من أجل إرساء علاقات متينة ثابتة مبنية في الدرجة الأولى على الثقة المتبادلة وعلى النيات الحسنة، في حلّ الخلافات القائمة. إنّ علاقات متينة بين السعودية وإيران، اللتين لهما حضورهما وتأثيرهما، ودورهما على الساحة المشرقية، وفي غربي آسيا، يحتم عليهما التعاون الأخوي الذي سيترك تأثيره الإيجابي على دول وشعوب المنطقة كلها ويعزز من حضورهما وتعاونهما المشترك.
عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في الشكل، ليست بحدّ ذاتها نهاية آنيّة للخلافات القائمة، نظراً لما شاب العلاقات الثنائية بين البلدين من تراكمات سلبية بحاجة الى وقت لترميمها. ولا يتصوّر أحد أنّ الخلافات ستزول بين ليلة وضحاها كما يعتقد البعض، وأنّ الأمور والمواضيع الخلافية ستحلّ كلها دفعة واحدة في المنطقة. هناك تباينات كثيرة في الممارسات، والرؤى والأفكار أدّت الى تدهور العلاقات، والقطيعة بين البلدين. لكن مع عودة العلاقات الدبلوماسية، ستتوقف الحملات الإعلامية بين البلدين، والاتهامات السياسية، والنعوت، والتصريحات السلبية المتبادلة، ما يمهّد للدبلوماسية السعودية ـ الإيرانية في ما بعد، كي تقوم بالدور المطلوب منها لحلّ القضايا الحساسة، والإشكالات والخلافات المتنازع حولها، وهذا الأمر بحاجة الى بعض الوقت.
الصين نجحت، والرياض وطهران تجاوبتا. وإذا ما سارت الأمور بشكل طبيعي، فإنّ مرحلة جديدة، ستسطر تاريخها إيران والسعودية، وهذا ما سيقلق بكلّ تأكيد «اسرائيل»، والولايات المتحدة قبلها.
ليس من الأمر السهل أن تتقبّل واشنطن وجود التنين الصيني في منطقة الشرق الأوسط وبالذات في منطقة الخليج وغربي آسيا، التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مصالحها الحيوية والطاقوية، والاستراتيجية، لكونها ترفض ما تقوم به الصين من دور فعال في المنطقة، ولا تتقبّل توجّه السعودية الى الصين، ولا تلاقي طهران والرياض. ما يحصل يشكل ضربة قوية للنفوذ الأميركي في المنطقة. وهذا ما يدفعنا للقول عما إذا كانت أميركا ستكتفي بالتفرّج على ما يجري، أم أنها ستقوم بهجمة مرتدّة على أكثر من طرف، بطريقتها ووسائلها الخاصة التي تعوّدت عليها، والتي خَبِرتها جيداً شعوب العالم الحرة؟!
كلّ شيء متوقع من واشنطن، أكان حيال طهران أم حيال الرياض. فما حصل مؤشر كبير لتحوّلات جذرية في العلاقات السياسة بين دول المنطقة، خاصة بين دولتين إقليميتين لهما دورهما وحضورها وتأثيرهما في المنطقة والمحيط.