لبنان00 هل تبدأ عملية تنقية القطاع المصرفي؟
أحمد بهجة
لا تستطيع المصارف ومعها جمعيتها أن تدّعي المظلومية، حتى لو أنها من أجل تحسين صورتها أمام الرأي العام، جيّشت عدداً غير قليل من الصحف ووسائل الإعلام، ومئات الإعلاميين والسياسيين أو المتعيّشين على ظهر السياسة…
فالرأي العام مكوّن من مجموع المواطنين الذين بغالبيتهم الكبرى لهم علاقة معينة مع المصارف، ومَن لا علاقة له بشكل مباشر هناك في عائلته ومحيطه من يخبره يومياً عن معاناته مع هذا المصرف أو ذاك منذ تشرين الأول 2019 حتى اليوم.
إذن صورة المصارف أمام الرأي لن تحسّنها دعاية إعلامية أو ترويج أخبار بأنّ هناك مَن يستهدف القطاع المصرفي من خلال بعض الدعاوى التي لا يجوز الردّ عليها إلا من خلال الأطر القانونية المتبعة والمعروفة.
ولو أنّ المبالغ الطائلة التي تدفعها المصارف (بالدولار الـ fresh) من أجل هذه الدعاية الإعلامية، لو أنها أعادتها إلى بعض المودعين لكان هذا الأمر بحدّ ذاته أفضل دعاية للمصارف، ومَن يفعل ذلك من المصارف يستطيع القول إنّ هناك ظلماً يلحق به.
لكن المصارف لجأت إلى وسائل لا يحقّ لها أن تقوم بها، كأن تقفل أبوابها وتعلن الإضراب المفتوح، علماً أنها بمثابة مرفق عام مثل المطار أو المرفأ ولا يجوز التصرف بالقطاع بهذا الشكل المؤذي للمصارف نفسها وللمواطنين وللبلد بشكل عام.
لماذا الإضراب؟ هل فقط لأنّ القضاء يلاحق مصرفاً أو أكثر نتيجة دعاوى قانونية مرفوعة أمامه؟ وهل قيام القضاء بدوره على هذا الصعيد يمثل حسب رأي المصارف تهديداً للاستقرار وللنظام المالي، بينما إذا ادّعى مصرف ما على أحد عملائه بسبب تخلّفه عن تسديد ما عليه من أقساط، فإنّ على القضاء أن يلبّي طلب المصرف ويقوم بالحجز على ممتلكات العميل وصولاً إلى حدّ طرحها للبيع لكي يستردّ المصرف المال الذي أقرضه لهذا العميل؟ وهل يمكن في هذه الحالة أن يتضامن كلّ المقترضين من المصارف مع زميلهم الذي صدر بحقه حكم قضائي ويعلنون جميعاً التوقف عن تسديد قروضهم، كما تفعل اليوم المصارف وجمعيتها ومعهم «الحاكم» طبعاً المطلوب رقم واحد إلى القضاء…
في المحصلة، لبنان اليوم يمرّ بأزمات كبيرة ومعقدة على أكثر من صعيد، ولا شكّ أن لمصرف لبنان ومعه المصارف وأصحابها والمساهمين فيها من السياسيين اليد الطولى في هذه الأزمات المالية والاقتصادية التي تشدّ الخناق على اللبنانيين جميعاً… والتي لا خلاص منها إلا بالوسائل القانونية وعبر مسار قضائي واضح يعطي لكلّ صاحب حق حقه بلا زيادة ولا نقصان… وبلا إضرابات لا تؤدّي إلى الحلول المطلوبة.
على أنّ الحقيقة الكبرى الماثلة أمامنا جميعاً اليوم تتمثل بهذا الفشل الكبير للسلطة السياسية أو لما تبقّى منها، حتى لا نستخدم تعبيراً آخر للدلالة على واقع الحال الذي يمثله تصرّف رئيس الحكومة ومعه وزير داخليته (القاضي) ضدّ القضاء، والذي يعبّر عن نوايا مسبقة بعرقلة المسار القضائي الذي بدأ يعطي ثماره، حيث لبّى عدد من المصارف طلبات القاضية غادة عون وفتح أمامها كلّ كشوفات الحسابات المطلوب التدقيق فيها، بينما ماطلت وتأخرت مصارف أخرى في التجاوب مع طلبات القاضية عون في محاولة للتهرّب من التحقيق بانتظار أن تفعل التدخلات السياسية فعلها لوقف هذا المسار الواعد.
يُضاف إلى التدخلات السياسية محاولات البعض تشويه صورة ما تقوم به القاضية عون، والحملات الإعلامية ضدّها واعتبار أنّ قراراتها تؤذي لبنان لأنها تكشف القطاع المصرفي أمام الخارج وتهزّ الثقة به أمام المصارف المراسلة!! ألا يعبّر ذلك فعلاً عن مقولة «المضحك المبكي»؟ عن أيّ ثقة وانكشاف وأذية يتحدث هؤلاء؟ وهل بقي شيء من هذا بعد الارتكابات الجرمية التي قامت بها المصارف بشقيها العام والخاص ضدّ مجموع المودعين باستثناء بعض الحسابات التي تدور حولها شبهات الفساد وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع، وهي من ضمن الحسابات التي حوّلت إلى الخارج مليارات الدولارات في تشرين الأول 2019 في حين أقفلت المصارف أبوابها أمام باقي المودعين ولم تسمح لهم بالوصول إلى مدّخراتهم وجنى أعمارهم.
هذا الأمر مستمرّ حتى اليوم، وها هي المصارف تعيد المعزوفة نفسها وتقفل أبوابها أمام الناس وتضع شروطها باستعلاء واضح على كلّ السلطات في البلد دفعة واحدة، حيث تريد جمعية المصارف من السلطة التشريعية أن تقرّ قانون الكابيتال كونترول وفقاً لما يناسب المصارف و»حاكمها»، وتريد من السلطة التنفيذية أن تجد طريقة تعفيها من تحمّل أيّ جزء من الخسائر التي كان للمصارف الدور الأكبر في التسبّب بها، وتريد من السلطة القضائية وقف كلّ الملاحقات ضدّ المصارف ونسيان ما حصل في السابق وبدء مرحلة جديدة كأنّ شيئاً لم يكن!؟
هكذا تكون المصارف، هي السلطة العليا في البلد، تأخذ ما تريد ولا تعطي شيئاً، وها هي تبلغ رئيس الحكومة أنها ستعاود فتح أبوابها اعتباراً من صباح اليوم الاثنين 27 شباط ولمدة أسبوع واحد فقط يُفترض خلاله أن يتحقق بعض شروطها خاصة وقف الملاحقات القضائية التي تقوم بها القاضية غادة عون، والتي أكدت أنها ستتابع عملها رغم كلّ الظروف.
هنا لا بدّ للقوى السياسية التي يهمّها أمر الناس أن تتحرك باتجاه تأكيد مبدأ فصل السلطات وعدم السماح لأيّ سلطة بأن تهيمن على سلطة أخرى، خاصة إذا كان مَن يحاول حرف العمل القضائي عن مساره هو واحد من المساهمين الرئيسيين ببعض المصارف التي لم تستجب بعد مع طلبات القاضية عون، وهو ما يمكن القول إنه بداية مسار الفرز بين المصارف الجيدة القابلة للاستمرار واستعادة ثقة الناس بها، وهذا أمر ضروري جداً للاقتصاد الوطني، وبين مصارف لن تستطيع البقاء بعد انكشاف أدوارها وتخبيصاتها سواء في داخلها أو بالنسبة لعملائها وللبلد بشكل عام.
وفي هذا المجال يجب أن يكون للإعلام الوطني النزيه دور أساسي في حمل لواء محاربة الفساد والقيام بدور محوري على هذا الصعيد لأنّ ما نشهده في بعض الإعلام أحياناً يدعو إلى الأسف والاستياء بقدر ما يدعو إلى المطالبة أولاً بتنقية الجسم الإعلامي من هذه الشوائب الضارّة جداً، والتي بدأ الناس يكتشفون دورها المؤذي جداً للبلد وناسه واقتصاده…