kayhan.ir

رمز الخبر: 165944
تأريخ النشر : 2023February25 - 20:21

دماء شبان فلسطين تحوّل الكيان المؤقت الى رهينة

أحمد فؤاد

من المؤكد أن سلاحًا لم يلعب الدور الأول والأساس في نشأة كيان ما على الأرض، سوى الكيان الصهيوني، ومن المسلم به أن هذا الكيان القائم على بنيان من الأكاذيب التاريخية والوعود التوراتية الغامضة، قد لجأ إلى حل واحد لانتزاع أرض وبلد من شعبها الذي سكنها لآلاف السنين. وكانت القوة العسكرية هي التي حسمت وأنجزت زرع هذا الكيان الشيطاني، كما كان الانتصار على الجيوش العربية بسلاح متفوق هو الذي دفع بموجات الهجرة من أوروبا الممزقة إلى الوطن المغتصب الجديد.

وبعد النكبة، ظل السلاح هو الأصل، وتطور إلى إستراتيجية "الردع"، بالمذابح والتهجير والتنكيل، ليدفع الرعب الجديد السكان العرب بعيدًا عن أرضهم قبل أن تصلها عصابات المستوطنين، وتبعد عن أذهان وقلوب الدول العربية المحيطة أية أفكار للتورط من جديد في نزاع مسلح مع خصم أذاقهم مجتمعين الهزيمة ورد جيوشهم إلى أوطانها مكللة بالعار.

منذ إعلان الكيان في 1948، ظل الردع قائمًا وناجحًا، والإستراتيجية الصهيونية التي تبدو ثابتة في أية مواجهات طويلة مع جبهة عربية، تؤمن وتبنى على أن العرب المثقلين بالهموم والتشرذم المروع، أصحاب النفس الأقصر في الحرب، قد يتمكنون من حشد جهودهم بالفعل لمعركة، لكن إن طال الوقت تراخت التعبئة وضعفت الحماسة، ثم تنفجر شواغلهم وخلافاتهم الداخلية وتأخذهم إلى طرق أخرى بعيدة عن التي جمعت بينهم في البداية.

لكن العامل الجهادي ودور حزب الله في المواجهة مع العدو، قد تمكنا من كسر تلك الإستراتيجية، وكشف زيف البالونة الصهيونية المنفوخة تبنًا وقشًا في وجوه مدمني الهزائم والانسحابات وأهل الخيانات. في نيسان من العام 1996، جرت محاولة صهيونية لاستعادة زمام المبادأة في الصراع المشتعل بجنوب لبنان حينذاك، وأطلقوا عليها تسمية "عناقيد الغضب"، وكان الظرف متشابهًا مع الوقت الحالي تمامًا، حكومة صهيونية مفككة أو شبه متهاوية بقيادة السفاح شمعون بيريز، وغضب داخلي مشتعل مع عمليات بطولية في الجنوب تحصد ضباطه وجنوده، وحاجة شديدة إلى انتصار يعيد الهيبة ويوقف نزيف الثقة.

النتيجة المباشرة كانت وبالًا على العدو، ثبات مذهل لأبطال الله على الأرض، ودماء تسطر ملاحم الفداء، ونسجوا أساطيرهم الخالدة من لحم ودم، من إرادة وأمل، ومن عقيدة وإيمان، أبطال لديهم من اليقين ما يستطيعون به أن يجابهوا الدنيا كلها، وهم يقبضون على حقهم، ولا يخشون أو يتراجعون مهما بلغت العواصف أو طالت المسيرة، كانت نيسان 1996 هي الخطوة المباشرة التي تسبق التحرير في أيار 2000.

لم يستطع العدو، رغم كل الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها في لبنان، ويندى لها الضمير البشري، أن يستمر على قطعة أرض تلفظه، ولا أن يحكم شعبًا اختار الحرية والحياة، ورغم استعانته بجيش من الخونة، إلا أن الإيمان الذي كان يقود حركة حزب الله منذ أيامه الأولى، لم يرها معركة سياسية تحتمل التنازلات، ولا معركة اقتصادية تكفيها بعض النجاحات، ولا معركة عنصرية يسهل دحض أسبابها، لكنها في القلب كانت معركة عقيدة، معركة بين حق وحقد، معركة كفر أو إيمان، لا يجوز فيها إلا احتمالية وحيدة وهي الانتصار الكامل.

اليوم في فلسطين يعيد الصهيوني ترتيب أوراقه المبعثرة ولملمة شتاته، ويحاول عبر عملية عسكرية غادرة في نابلس الباسلة، ارتقى فيها 11 شهيدًا، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل معركة وحدة الساحات، وأن يستغل الظرف الحالي في الاستفراد بالمدن والمخيمات الفلسطينية واحدة بعد الأخرى.

والهدف والظرف لا يختلفان كثيرًا عن "عناقيد الغضب"، الحصول على صك تفويض وقبول داخلي بالحكومة المتشققة الجديدة، وورقة يستر بها نتنياهو وبن غفير عورتيهما، أمام رأي عام صهيوني بدأ يشعر ويزمجر بالقلق على وجود الدولة، ومستغلًا أيضًا حالة التواطؤ الرسمي العربي، الذي يحاصر ويخنق غزة، ويحاول بالتالي إبعادها عن الرد على المجزرة الصهيونية الجديدة.

إلا أن ما فات الصهاينة وأتباعهم في قصور الحكم العربية، أن قوافل الشهداء وأنهار الدم الزكي الجارية على أرض فلسطين، ليست إلا المحفز الأول والأهم لمزيد من المقاومة، وأن ما يجري فعلًا لا يخصم إلا من أيام أنظمة وسلطات التنسيق الأمني مع العدو، والفلسطيني الذي كتب أساطير البذل والفداء طوال 74 عامًا، قادر على إعادة كرة النار المشتعلة إلى قلب الكيان.

فلسطين لا تبكي أبطالها إلا لتوفيهم حقهم، فهذه النفوس الأبية والشبان صغار السن، عظام القدر والقيمة، لا يعزيهم البكاء، لكنْ عزاؤهم الحقيقي في تناول البارودة والاستمرار في طريق النضال القاسي الطويل. إن أي ظرف في معادلات القوة بيننا وبين الصهيوني ومن خلفه الأميركي، عابر، قابل للتغير أو الانقلاب، أمام هذه النفوس فهي الباقية الخالدة، وهي الراسخة كالجبال.

..في آخر خطابين لسماحة السيد حسن نصر الله، وضع رؤية شاملة للصراع في المنطقة، وهو صراع أصلًا مع الأميركي وقاعدته العسكرية المتقدمة في الكيان الصهيوني، وضغط بشدة على فكرة أن نسخة الحرب الأميركية الجديدة على الأمة، والمقاومة في قلبها، تتمحور حول الاقتصاد، وإن كانت المقاومة على لسان الأمين قد أعلنت موقفها القوي في خطاب سماحته يوم 16 شباط لذكرى القادة الشهداء، وكشف أن رد الحرب لن يكون إلا بسلاح المواجهة الشاملة، والألم مقابل الألم، والفوضى ثمنًا للفوضى.

في هذا الخطاب الأخير تحديدًا الكثير للمقاومة الفلسطينية البطلة الذي يمكن البناء عليه، على الأقل معنويًا وإيمانيًا، فالإرادة الحرة التي انتصرت على العدو مرة بعد المرة، وأذلته في كل ساح جرب فيه سلاحه، في مرحلة تاريخية دقيقة، توشك أن تحول هذا الكيان إلى رهينة قرار، وتثبت المبدأ الأول للعمل الجهادي في وجه هذا الطاغوت بأن فلسطين، كل فلسطين، لأهلها فقط، وليس لقطعان الصهاينة فيها من مكان أو مستقبل.