أميركا تتآمر.. أوروبا تتخاذل وروسيا تدافع عن وحدة وسلامة أوكرانيا
جورج حداد القسم الثاني و الاخير
الانتخابات الرئاسية
وفي هذه الظروف القاسية التي لا يعرف فيها مصير اوكرانيا، وعلى وقع القصف والتعديات الدائمة والحصار الذي تتعرض له مقاطعات شرقي وجنوب اوكرانيا والقمع الذي يتعرض له المعارضون للسلطة الحالية في جميع انحاء اوكرانيا، جرت الانتخابات الرئاسية في 25 ايار الماضي في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الانقلابية فقط، وفاز فيها الملياردير الاوكراني بيوتر بوروتشينكو، بنسبة تزيد عن 54% من اصوات المقترعين، ما لا يستدعي اجراء دورة انتخابية ثانية. وصرحت القيادة الروسية انها ستحترم ارادة الناخبين الاوكرانيين وتتعامل بواقعية مع سلطة كييف الجديدة. ويعتبر المراقبون ان الرئيس الاوكراني الجديد هو موال للغرب معتدل وفي الوقت ذاته من انصار الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع روسيا ولا سيما على "جبهة الغاز"، سواء لجهة اعتماد اوكرانيا على الغاز الروسي او لجهة تصدير الغاز الروسي الذي يمر ترانزيت عبر الاراضي الاوكرانية الى البلدان الاوروبية الاخرى، وخصوصا ان اوكرانيا قد خسرت بدل الايجار الذي كانت تحصل عليه بكميات غاز مخفضة الاسعار لقاء تأجير القاعدة البحرية في سيباستوبول، التي انضمت الى روسيا، وصارت اوكرانيا، بالاضافة الى ديون الغاز الاخرى، مديونة ايضا بـ 11 مليار دولار لروسيا، مقابل كميات الغاز التي حصلت عليها مسبقا كبدل ايجار لقاعدة سيباستوبول حتى سنة 2042، وشركة "غازبروم" الروسية تطالب الان اوكرانيا بهذا المبلغ، لان سيباستوبول اصبحت قانونيا روسية. وعقب انتخابه صرح بوروتشينكو انه عازم على زيارة مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك المنتفضتين والحوار مع القوى السياسية هناك. واعتبر الكثير من المراقبين ان مثل هذه الخطوة قد تكون فاتحة جيدة نحو اجراء حوار وطني مباشر وشامل بين مختلف الاطراف الاوكرانية وحول مختلف القضايا المتنازع عليها.
الرئيس الجديد يوافق على تشديد الحملة العسكرية
ولكن بدلا من ان يتم اقرار هدنة ولو مؤقتة لسحب الجثث على خطوط المواجهات العسكرية، ولا سيما في محيط مطار دونيتسك الذي تعرض لهجمات شرسة من قبل الجيش الاوكراني، وكتمهيد لزيارة بوروتشينكو الى المقاطعات المنتفضة، قررت حكومة ياتسينيوك الانقلابية واللاشرعية اصلا تشديد الحملة العسكرية ضد شرق وجنوب اوكرانيا وهي تزعق بكل وقاحة (على طريقة: امسكوا الحرامي) ان الاراضي الاوكرانية تتعرض لعدوان روسي. ومن اجل اخفاء الحقائق عن الرأي العام العالمي عمدت الحكومة الانقلابية الى منع الصحافة المستقلة من الحضور ميدانيا، واخذ القناصة الفاشست يطلقون النار عمدا على الصحفيين، فقتلوا صحفيا فرنسيا، وجرحوا عدة صحفيين غيره، وتم اعتقال عدد من الصحفيين الروس والتنكيل بهم واتهامهم بانهم "ارهابيون"، مع ان بعضهم يتبع لبعض الصحف الروسية الموالية للغرب والمعارضة لحكم الرئيس بوتين. وقد أيد الرئيس الجديد تشديد الحملة العسكرية، ضاربا عرض الحائط بتصريحاته حول زيارة الاقاليم الشرقية والجنوبية المنتفضة. والمستغرب جدا ان الوسيط الاوروبي في اوكرانيا، الالماني الجنسية إيشينغر، أدلى بتصريح أيد فيه توسيع الحملة العسكرية للجيش الاوكراني ضد المقاطعات الشرقية والجنوبية. وقد وصفت وزارة الخارجية الروسية تصريحاته بأنها مشينة.
الاتجاه لتشكيل جيش شعبي للمقاومة
وفي هذا الوقت بدأت قوات الدفاع الشعبي الذاتي في المناطق المنتفضة تنظم نفسها بشكل افضل، وأعلن عن بداية تحويل هذه القوات الى "جيش وطني"، وبدأ عشرات الاف المتطوعين ينضمون الى صفوف المقاومة الشعبية والانخراط في الجيش الجديد. وقد انعكس ذلك ميدانيا في دحر جميع الهجمات، وتم اسقاط خمس طائرات مروحية حتى الان، سقط فيها عشرات القتلى بينهم جنرال اوكراني. كما اعترفت قيادة الجيش الاوكراني وقيادة "الحرس الوطني" (التابع للشرطة) بسقوط عشرات القتلى ايضا في صفوف كل منهما. وتستعد قوات الدفاع الذاتي الشعبي لشن هجمات مضادة ردا على القصف المدفعي البعيد. وستقوم جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي بارسال المتطوعين المدربين والاسلحة النوعية الى المقاومة الشعبية في المناطق المنتفضة.
والسؤال الملح الآن هو: الى اين ستتجه اوكرانيا؟
طبعا ليس من السهل على اي طرف كان الاجابة عن هذا السؤال. ولكن في رأينا المتواضع، ولمحاولة فهم ما يجري في اوكرانيا، ينبغي الالتفات الى النقاط التالية:
1ـ ان اوكرانيا هي منقسمة بعمق على المستوى الثقافي ـ القومي. فـ"روسيا كييف" (او ما يسمى "كييف روس") هي اول دولة روسية، ومهد ظهور الدولة الروسية الموحدة ومن ثم الامة الروسية الموحدة، وفيها ايضا تم تعميد وتبني الديانة المسيحية على المذهب الارثوذكسي الشرقي، بدون الاتحاد مع بيزنطية.
ولكن الكتلة الاكبر للارض والامة الروسيتين كانت تمتد نحو الشرق والشمال. واحتلت اوكرانيا مركز "الطرف" في روسيا العظمى، ومن هنا جاء اسمها "اوكرائينيا" اي "الطرفية" او "الاطرافية". وبهذا الموقع كانت اوكرانيا تمثل جزءا من خط الدفاع الاول عن روسيا، لجهة الجنوب ـ الغربي. وكانت على الدوام ضحية للغزوات والاحتلال من جهة الجنوب والبحر الاسود، من قبل روما وبيزنطية والمغول والتتار والعثمانيين، ومن جهة الغرب والشمال، من قبل الجرمان والبولونيين والصليبيين الشماليين. وادى ذلك الى وجود تعددية اتنية وثقافية ودينية.
تياران للوطنية الاوكرانية
وتنقسم هذه التعددية الى تيارين وطنيين رئيسيين: تيار وطني روسي ـ ارثوذكسي، يرى ان المحتوى الحقيقي والهدف النهائي للوطنية الاوكرانية هو الانتماء الى روسيا ـ الارثوذكسية. وينتشر هذا التيار في الاخص في المقاطعات الشرقية والجنوبية لاوكرانيا، حيث غالبية السكان هم من الروس والناطقين باللغة الروسية والمنتمين الى المذهب الارثوذكسي دينيا. وتيار وطني اوكراني شوفيني يدير ظهره لروسيا، ويرى ان الوطنية الاوكرانية هي في الالتحاق بأوروبا الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية. ويمثل هذا التيار استمرارا تاريخيا للحقد الفاتيكاني القديم على روسيا والمسيحية الشرقية، وللحروب الصليبية الشمالية ضد روسيا في القرون الوسطى. وخلال الحرب العالمية الثانية برز من هذا التيار جناح فاشستي التحق بالقوات الهتلرية وحارب معها وارتكب المجازر ضد شعبه الخاص وضد الشعب البيلوروسي. وهذا التيار يريد جر اوكرانيا الى الانضمام الى حلف الناتو لتحويل اوكرانيا الى قاعدة نووية ضد روسيا، مغامرا تماما بوجود اوكرانيا على الخريطة. وبين هذين التيارين يوجد شبه تيار ثالث ـ وسطي ـ يحاول الجمع والتوفيق بين التيارين الرئيسيين وان يصنع منهما بلدا وشعبا موحدين، وكان آخر ممثل لهذا شبه التيار الوسطي الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي بلغ من "وسطيته" انه وافق على منع الشرطة من الدفاع عن نفسها حتى وهي تدافع عن البرلمان الذي اقتحمه الفاشست بالقوة. والنتيجة: اننا نرى الان كيف ان الحكومة الانقلابية الموالية للغرب تستخدم الجيش الاوكراني بدباباته ومدافعه وصواريخه وطائراته الحربية لقصف المدارس والمستشفيات والسكان الآمنين في الاقاليم الشرقية والجنوبية لمجرد انهم روس، وكأن الاوكراني ـ الروسي هو كائن محروم من ابسط حقوق الانسان.
الرأسمالية اللصوصية حليفة الغرب
2ـ ان الطبقة الرأسمالية التي تقود الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد (وبصرف النظر عن الانتماءات الاتنية والدينية لافرادها) هي طبقة مستحدثة وحديثة النعمة جمعت ثروتها الاولية من اللصوصية والفساد والرشى ونهب القطاع العام السابق، وقد بلغ الامر حد السرقة المكشوفة للغاز الروسي الذي يمر ترانزيت في اوكرانيا الى البلدان الاوروبية الاخرى. ومن ابرز ممثلي هذه الطبقة الملياردير رينات احمدوف (التتاري الاصل) في الشرق، والرئيس المنتخب الحالي بيوتر بوروتشينكو في الغرب. وهذه الطبقة، وبصرف النظر عن حجم ثرواتها، وبسبب صفتها الاساسية الطفيلية كانت وما زالت غير قادرة على خلق هيكل اقتصادي متماسك للدولة، بل على العكس فهي جعلت الدولة دولة مخلعة المفاصل، منهوبة، تنوء تحت الديون الداخلية والخارجية. ولولا الدعم الاقتصادي المتواصل والضخم الذي تقدمه روسيا لاوكرانيا لانهارت تماما منذ سنوات. والطبقة الرأسمالية المتنفذة في اوكرانيا تعمل لجر اوكرانيا ووضعها تحت النفوذ الغربي، من اجل التهرب من تقديم الحساب على لصوصيتها وجرائمها بحق الشعب الاوكراني، والاحتفاظ بالسلطة.
القلعة الروسية تدعم الشقيقة الصغرى
3ـ لقد استرجعت روسيا حقها التاريخي في شبه جزيرة القرم، وبناءً على ارادة شعبها بالذات. وفيما عدا ذلك فإن روسيا لا تريد تقسيم واضعاف الدولة الاوكرانية، باعتبار انها دولة شقيقة يجمعها مع روسيا تاريخ مشترك وثيق. وتقدم روسيا لاوكرانيا مساعدات وتسهيلات اقتصادية ومالية كبرى، وهي تعمل على حمايتها من الغزو الغربي. وتستخدم روسيا نفوذها لدى قطاع واسع من الشعب الاوكراني، وبالاخص الاوكرانيين الروس والناطقين باللغة الروسية، من اجل المحافظة على وحدة البلاد وسيادتها وحمايتها من الوقوع في براثن الناتو. ولكن مهما جرى، فإن روسيا لن تسمح بأي حال من الاحوال بتحويل اوكرانيا الى قاعدة للناتو، لان هذا يعني ان تضع روسيا اوكرانيا على لائحة الشطب من الخارطة تماما، وهذا ما يصعب التفكير به من قبل اي مواطن واي مسؤول روسي، نظرا لعاطفة الاخوة الخاصة التي تربط روسيا واوكرانيا.
اميركا عدوة كل الشعوب
4ـ ان مراكز القرار ودوائر الاستخبارات الاميركية، تعمل المستحيل لجر اوكرانيا الى الانضمام لحلف الناتو وتحويلها الى قاعدة نووية معادية لروسيا، ولو كان ذلك سيتم عبر توريط اوكرانيا في حرب اهلية دامية، وتقسيمها، والسيطرة الغربية ـ الناتوية على جزء من اوكرانيا فقط يكون خاضغا للغرب وبالامكان ضمه الى الناتو. وفيما دون ذلك، فإن المراجع الاميركية، اخذا في الاعتبار فشل اميركا في افغانستان والعراق واضطرارها لسحب قواتها من هذين البلدين، وخصوصا فشل المخطط الاميركي للسيطرة الاميركية ـ الداعشية الكاملة والمباشرة على سوريا، فإنها ـ اي المراجع الاميركية ـ تخشى ان تستفيد روسيا من هذا التهافت الاميركي لتنشيط سياستها في الشرق الاوسط والعالم، ولهذا فهي تعمل على فتح جرح نازف في الخاصرة الروسية، لالهاء روسيا واضعافها. ونظرا لموقع اوكرانيا الاستراتيجي كموقع عبور للغاز الروسي الى اوروبا، فإن المراجع الاميركية تخشى تحقيق اي اتفاق تسوية للاطراف المتنازعة في اوكرانيا، لان الاتفاق داخل اوكرانيا يعني ايضا الاتفاق الروسي ـ الاوروبي الغربي، والسياسة الاميركية تبذل كل ما بوسعها لمنع التقارب الروسي/الصيني ـ الاوروبي، لانها تعتبر ان مثل هذا التقارب سيكون حتما على حساب العلاقات الاميركية بأوروبا وروسيا والصين، وسيؤدي الى عزلة اميركا اكثر فأكثر.
اوكرانيا
تظاهرة في أوكرانيا
التخاذل الاوروبي
5ـ ان اوروبا الغربية تمتلك نفوذا رئيسيا واوراقا اقتصادية وسياسية كثيرة في اوكرانيا؛ فباستثناء المجموعات الفاشستية المفضوحة الملطخة اياديها بدماء الاوكرانيين، وهي المجموعات السائرة كليا مع المخابرات الاميركية وتأتمر بأوامرها، فإن جميع القوى والاحزاب الليبيرالية المعادية لروسيا والمؤيدة للغرب، والكنيسة الكاثوليكية، وكل طبقة الفساد والرشوة والاثراء غير المشروع والصفقات المشبوهة ونهب القطاع العام واللصوص الكبار ومن يمثلهم في المجتمع ومؤسسات الدولة، جميعهم بلا استثناء هم بالدرجة الاولى مع بولونيا والاتحاد الاوروبي واوروبا الغربية. وفي الانتخابات التي جرت في 25 ايار، وكانت انتخابات مزدوجة لانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس بلدية مدينة كييف، فاز "الاوروبيان" بيوتر بوروتشينكو برئاسة الجمهورية وبطل الملاكمة العالمي فيتالي كليتشكو برئاسة بلدية كييف. ومع ذلك فإن اوروبا الغربية لا تستخدم اوراق القوة لديها من اجل ايجاد حل سياسي للازمة الاوكرانية، بما يحفظ المصالح القومية للشعب الاوكراني ويحميه من الانزلاق الى حرب اهلية مدمرة، ويحفظ في الوقت ذاته مصالح اوروبا الغربية ذاتها التي تتجسد في التفاهم والتعاون مع روسيا، وتحويل اوكرانيا الى جسر تواصل بين اوروبا وروسيا وليس الى حقل نزاع. وعلى العكس من كل منطق عقلاني، تسير السياسة الاوروبية، كتابع للسياسة الاستفزازية والتدميرية الاميركية، التي لا يهمها لا مصير اوكرانيا، ولا مصير اوروبا كلها، ودعنا من روسيا. وحسب بعض المعلقين فإن اوروبا تتصرف كصندوق قاذورات للسياسة التدميرية الاميركية. بحيث يقوم اتباعها الاوكرانيون بتنفيذ كل ما تريده المخابرات الاميركية. ولكن على الضد من ذلك فإن بعض المراقبين الآخرين يرون ان اوروبا انما "تتذاكى"، إذ يقوم اتباعها الاوكرانيون بـ"المزايدة" على المجموعات الفاشستية ذاتها في المواقف المتطرفة ضد المقاطعات الشرقية والجنوبية المنتفضة، وذلك من اجل دفع المجموعات الفاشية والاجهزة الاميركية التي تقف خلفها الى الوراء وانتزاع زمام المبادرة العسكرية والسياسية منها، بحيث ينحصر قرار الحرب والسلم في ايدي القوى الاوكرانية "الاوروبية"، وحينذاك ستعمد هذه القوى الى فتح الحوار مع ممثلي المقاطعات الشرقية والجنوبية المنتفضة برعاية اوروبية ـ روسية مشتركة، مع او بدون اميركا. واذا تعذر حصول ذلك في وقت قريب، فإن "الاوروبيين" الاوكرانيين، ولا سيما بعد ان فازوا برئاسة الجمهورية ورئاسة بلدية كييف، سيضغطون على البرلمان والحكومة الحالية لاجل تعيين موعد قريب لانتخابات نيابية جديدة، وهم واثقون ان التيار "الاوروبي" في المقاطعات الاوكرانية الوسطى والغربية سيفوز بالاكثرية في البرلمان العتيد، من ثم سيستطيع تشكيل حكومة موالية لاوروبا تستبعد منها العناصر الفاشستية والراديكالية، التي تشارك الان في الحكومة الحالية ولها الكلمة الاولى فيها.
يتبين لنا مما تقدم ان اوكرانيا تقف على عتبة مصير مجهول تظلله على الارجح الغيوم السوداء. وأن تجنب هذا المصير يتوقف الى حد كبير على أمرين:
اولا ـ صلابة الموقف الروسي الى جانب الشعب الاوكراني الشقيق وضد المؤامرات الاميركية.
ثانيا ـ مدى استقلالية موقف اوروبا، وعدم تخاذلها امام السيد الاميركي.