قفزة الضفدع العثمانية ورحلة التيه الاردوغانية
عابد عبيد الزريعي
عندما يتوافق الاعتداء التركي على الاراضي السورية تحت شعار نقل وحماية بقايا عظام "سليمان شاه” جد مؤسس السلطنة عثمان الأول، مسمار جحا السياسي المغروس في الارض السورية، مع الذكرى السابعة والخمسين للوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة.فان التاريخ يصبح حاضرا. وعندما يصرح رئيس الوزراء التركي ان العظام التي تم نقلها سيتم اعادتها في الوقت المناسب لذات المكان، فان التاريخ يصبح مستقبلا. ولأن التاريخ هو معلم البشرية الأكبر القادر على اعطاء ذات الدرس مرة كمأساة وأخرى كملهاة، فغالبا ما تجلس في حضرته امتان واحدة تصغي وتسأل وتستوعب دروسه وتستخلص ما يساعدها على تدبر امرها. وأخرى تبدع في حشو اذنيها بالحجارة والرمال لتواصل لهوها وتتحول الى انموذج للفرجة.
ولأن الموضوع الذي نتحدث عنه يرتبط بسليمان شاه جد مؤسس السلطنة العثمانية فان تاريخ السلطنة برمته خاصة في لحظة ادارة وجهها نحو الشرق وتمكنها من الاطاحة ارضا بالدولة العربية الاسلامية منذ ستة قرون مضت يصبح راهنا بكل تفاصيله ومستقبليا بكل دلالاته التي سنحاول تلمسها بالاستعانة باللمحات العبقرية للراحل في عز حاجة الأمة اليه الدكتور جمال حمدان، والتي تكفي لإضاءة الطريق امام العقول المتخبطة في تيه الانفاق المظلمة التي حُفِرت للأمة في غفلة من حراس ذهنها وبصيرتها. خاصة توصيفه الثاقب لطبيعة ونوعية واستراتيجيات الاحتلال العثماني للوطن العربي، والتي تتقاطع وتتوافق وتفسر الكثير من اللحظة التي نعيش على الرغم من انه رحل وفي ظروف مشبوهة قبلها بكثير وتؤشر لمسارات المستقبل لمن اراد ان يسلك طريق النهوض ويخرج من انفاق الضياع والغموض. وفي هذا السياق نسجل الملاحظات الاتية:
أولا: إذا كانت لحظة الاستدارة العثمانية القديمة نحو الشرق قد جاءت بعد ان توغلت عميقا في الغرب وتحطمت احلامها في احراز المزيد من التقدم على اسوار فينا، فان الاستدارة الراهنة لاردوغان جاءت في ذات السياق اي بعد تحطم الآمال على اسوار مبنى الاتحاد الأوروبي الذي مازال على ايمان اسلافه بان الشرق شرق والغرب غرب.
ثانيا: إذا كانت الاستدارة القديمة نحو الشرق قد تمت تحت راية الإسلام فان ذات الراية يتم رفعها اليوم بعد تلوين اطرافها باسم فلسطين وباسم الديمقراطية. ويبدو ان اردوغان كان يحضر نفسه الى هذه اللحظة عندما كان ينشد في خطاباته الجماهيرية / قبل استيلاء العدالة والتنمية على السلطة / للشاعر التركي ضياء كوكالب حتى تدمع عيناه: مساجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا هذا الجيش المقدس يحرس ديننا.
ثالثا: ان عقلية الرعاة تحكمت في طريقة الزحف فكان التوسع العثماني غير متصل في المكان بل يقفز كالضفدعة من نقطة الى اخرى غير متصلة بها. فنجده بعد الاستيلاء على مصر والشام يقفز الى الجزائر 1529م ثم يرتد كتيار عكسي الى تونس 1534م ثم طرابلس 1565م. وبعد الاعتقاد ان السلطنة قد ولدت من جديد نجد اردوغان يقفز ذات القفزات خلال عام 2011 فمن مصر في 11 سبتمبر 2011 الى تونس 15 سبتمبر ليعود الى نقطة الوسط ليبيا في 18 سبتمبر ليقفز من هناك في 19 سبتمبر الى الجزائر التي لوح لها الشيخ حمد بن جاسم بان الدور عليها. مؤملا نفسه بان تكون القفزة الأخيرة الى بلاد الشام التي اخذ على نفسه عهدا بان يؤم المصلين في جامعها الاموي.
رابعا: ادرك العثمانيون ان مصر التي انتقل اليها ثقل الدولة العربية الاسلامية بعد تدمير العراق على يد المغول هي مفتاح المنطقة العربية كلها، لذلك جعلوا منها هدفا مباشرا وزحفوا عليها عبر الشام التي كانت ومنذ زمن الفراعنة خط الدفاع الاول عنها، ولذلك سارعت مصر المملوكية لمواجهة الزحف العثماني على ضلوع الاناضول. وعندما هزمت قوة الدفاع في مرج دابق في حلب تقهقرت المقاومة الى خط الدفاع الثاني في قلب مصر وعندما انهارت المقاومة في ريدانية القاهرة سقطت مصر في عام 1517 وتم تعليق طومان باي على باب زويلة. مأساة اردوغان انه استطاع الوصول الى ريداينة القاهرة قبل ان يسقط مرج دابق حلب، وفي الوقت الذي كان يمنى نفسه بارتداد عكسي ليسقط مرج دابق في النهاية وليس في البداية ليسجل بذلك فتحا استراتيجيا يخلد اسمه الى جانب اسم سليمان شاه. استطاع صمود مرج دابق حلب استنهاض عناصر القوة في المقاومة الشعبية في ريدانية القاهرة واسقطت الاخوان في مصر ليتواصل السقوط في ذات الخط المتصل الذي سار عليه، وهذا ما يفسر رحلة التيه الاردوغانية وجنونه تجاه مصر. وما يفسر محاولاته التي لا تنقطع للقفز مرة أخرى الى ليبيا. وإصابته بالمرض الذي ليس منه شفاء " عقدة حلب.
خامسا: التاريخ حين يسرد الملهاة يخلع عن نماذجه كل الوقار والمهابة التي يدعونها لأنفسهم ليجعل منهم فرجة وعبرة لمن اعتبر. ولم يكن ابقاءه طوال هذه القرون لعظام جد مؤسس السلطنة إلا لاستعمالها كأدوات ووسائل ايضاح للحظة لهو من هذا النوع. فكان نقل العظام مناسبة للكشف عن عمق العمالة والمساومة على السيادة الوطنية من قبل قادة الائتلاف السوري المعارض الذين تفاخروا بان العملية بما فيها من علامة انتهاك للأرض السورية قد تمت بمعرفتهم وبالتنسيق معهم اولا. و كاشفا للعلاقة بين جهاز الدولة التركية والقوى الارهابية التي كانت تحتل المنطقة التي يوجد فيها الضريح ثانيا ، وكاشفا وهو الاهم لسقوط حلم اردوغان ثالثا، وهو الأمر الذي التقطه أمين عام حزب الشعب الجمهوري الذي اعتبر العملية برمتها ليست سوى اقامة مراسم الدفن لنظرية "العثمانية الجديدة” التي دفنت في ضريح سليمان شاه.
سادسا: ان نفي اردوغان عن نفسه وحزبه تهمة الجبن والمشاركة في اعداد مراسم دفن حلم اعادة السلطنة، باستخدامه للغة العصابات الارهابية كلما دق عنقها في مكان " انسحاب تكتيكي " باعتباره ان عملية نقل العظام ليست انسحابا ولكنها " إعادة تمركز مؤقتة بهدف حماية أرواح جنودنا”. تستدعي القول ان مثل هذا الكلام ليس الا اعترافا بالهزيمة ولكن بطريقة عوجاء تتناسب مع ما عرف به اردوغان من عنجهية. لنوضح:
1 -المنطقة التي يقع فيها الضريح تقع تحت سيطرة العصابات الارهابية وخارج السيطرة المباشرة للدولة السورية. وكان يمكن للعملية ان تتم بترتيب بين الطرفين وهو امر حاصل وقد كشف الكاتب روبرت فيسك انه تم مقايضة العظام مقابل حصول التنظيم الإرهابي على المزيد من خبراء النفط الأتراك. اذن لماذا تم دق باب القنصلية السورية وإبلاغها بالأمر ؟ثم الإقدام على عملية النقل قبل تلقي الرد؟؟
2- ان ابلاغ القنصلية السورية لم يكن مجرد رفع عتب ولكنه في مضمونه يعني اقرارا واعترافا بالدولة السورية وسيادتها على حدودها بما يعنيه ذلك من التراجع عن كل ما ردده اردوغان بهذا الصدد. اما عدم وصول الرد شخصيا اميل الى القول بان الحكومة السورية لم تكن ترغب في ذلك وحسنا فعلت. فالرد بالإيجاب يعني توفير غطاء لاردوغان ليداري خيبته، والرد بالسلب يعني تضييع فرصة قد سنحت وهي سحب ذريعة التدخل في المكان بما يعنيه ذلك من الاقرار الضمني بالعجز عن القيام بأية خطوة مستقبلية لحماية الضريح، وبما يترتب على ذلك من الاقرار بان حلم اقامة المنطقة العازلة على الاراضي السورية قد سقط.اما عدم الرد فهو لا يقود الى اعتبار تركيا دولة عدوانية بسبب اجتيازها للحدود السورية فقط وهو التوصيف الدقيق لما قامت به، ولكنه يقوم ايضا بعملية تظهير للهزيمة بوصفها عملية هروب. وصفها رئيس حزب الحركة القومية التركية لحكومة حزب العدالة والتنمية بانها تخلي من قبل حزب العدالة والتنمية "عن ضريح سليمان شاه بكل جبن”.
ونختم على ضوء ما تم عرضه بان حقائق التاريخ والجغرافيا والممارسة السياسية تبقى ماثلة وشاخصة امام ابصارنا ليل نهار. ومفادها ان حدود الأمن القومي العربي تبدأ من جبال طوروس، وان هضبة الاناضول كانت وعلى مدى التاريخ بوابة التهديد المشرعة دوما على فنائنا ، وان الممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية لا تنطلق من ضرورات اللحظة السياسية الراهنة فقط ولكنها تشرب مائها من نبع تاريخي اراد اردوغان ان يجعله نبعا دائما للكراهية والتدخل ، وان اقفال كل هذه النوافذ ليس له إلا طريق واحد الالتحاق بالجيش العربي السوري والقتال مرة اخرى على اضلاع الاناضول.