المقاومة شعبية لا سلمية
برهوم جرايسي
يساهم المشهد الفلسطيني القائم حالياً، في الوضعية السياسية الإسرائيلية الداخلية. فاستبعاد ملف الصراع والقضية الفلسطينية عن أولوية الأجندة الانتخابية لغالبية الأحزاب الصهيونية، خاصة المنافسة منها على الحكم، جاء تطبيقاً لأهداف استراتيجية إسرائيلية، تريد زوال القضية الفلسطينية عن قائمة اهتمامات الحلبة الدولية. لكن يجب القول إن حالة الصراع الفلسطيني الداخلي، وغياب ديمومة المقاومة الشعبية الجماهيرية الواسعة، يُبعدان الضغط عن الاحتلال، كما يبعدان القضية الفلسطينية عن أولويات الرأي العام العالمي.
منذ ما يقارب 20 عاماً، طالبت "إسرائيل” الحلبة الدولية والجانب الفلسطيني، بعدم "إزعاجها” بالموضوع الفلسطيني عند نشوب الأزمات الحكومية الإسرائيلية الداخلية التي لا تنقطع، وعند بدء التوجه إلى انتخابات، مروراً بالانتخابات ذاتها، وبعد تشكيل الحكومة بعدة أشهر. ما يعني أن الفترة المتبقية للانشغال الحقيقي بعد حسابات عدم الاستقرار السياسي الإسرائيلي المستمر، هي بضعة أشهر في كل دورة برلمانية. وهذه معادلة مقلوبة، مناقضة للمنطق، تحافظ على الوضع القائم الذي يستفيد منه الاحتلال.
ويجب الاعتراف أن حالة الصراع الفلسطيني الداخلي المستمر منذ ما يقارب ثماني سنوات، تشل أي حراك شعبي جماهيري للمقاومة. ونستطيع القول، إنه على الرغم من أن كل شعب واقع تحت الاحتلال يحق له استخدام كل الوسائل لإزالة هذا الاحتلال، إلا أن غالبية الشعب الفلسطيني تدرك أن الوسيلة الأكثر نجاعة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي هي المقاومة الشعبية العزلاء، والمنظمة والدائمة.
وعلى الرغم من الدعوات المستمرة لإطلاق المقاومة الشعبية، إلا أنها باتت تقتصر على مسيرات أسبوعية، في عدد قليل جدا ومحصور من القرى الفلسطينية في الضفة الغربية، تنتهي بمواجهات محدودة مع قوات الاحتلال. فمفهوم المقاومة الشعبية هو حالة غليان شعبي، ومقاومة دائمة، بشتى الوسائل الشعبية. وأن تكون عامة، تخلق حالة إرباك للاحتلال، وتلفت نظر العالم إلى القضية الفلسطينية. ولدينا نموذج تاريخي يجب التمسك به، هو انتفاضة الحجر الباسلة، منذ نهاية العام 1987 إلى العام 1992.
وبشأن حالة الصراع الداخلي التي تمنع إطلاق مقاومة من هذا الصراع، فإن هناك خطابين داخل الساحة الفلسطينية، يسيء كل منهما بقدر متفاوت لهذه المقاومة. فالإساءة الأكبر تأتي من الفريق الذي يستخف بها، ويقول إنها غير مجدية. وهي الجهة التي تريد قصر المقاومة على الكفاح المسلح، بوصفه أكثر نجاعة، رغم أن التجربة والحقائق على الأرض تثبت عكس ذلك. أما الفريق الآخر المؤيد للمقاومة الشعبية، فهو أيضاً يسيء بقدر ما لهذه المقاومة، حينما يطرحها بلهجة اعتذارية: "نريدها مقاومة شعبية سلمية”. فهي صيغة تؤدي إلى ميوعة المقاومة، وتضرب الجاهزية الثورية والتعبئة المطلوبة كي تُنجح هذه المقاومة.
في قاموس الاحتلال، فإن كل أشكال مقاومته إرهاب، حتى أن وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان، أتحفنا بمصطلح عالمي جديد: "إرهاب دبلوماسي”؛ يقصد به حراك منظمة التحرير الفلسطينية في الحلبة الدولية، وانضمام دولة فلسطين إلى العديد من المعاهدات الدولية. ولهذا، فإن المقاومة ليست بحاجة إلى إذن من الاحتلال، ولا إلى مصادقته على مواصفاتها كي تنطلق، لأن هدفها يجب أن يكون إزالة الاحتلال برمته.
رغم كل الخطابات المستمرة على مدى السنوات الماضية، ومن كل الأطراف الفلسطينية، حول ضرورة إنهاء حالة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وعلى الرغم من سلسلة الاتفاقيات والتفاهمات التي أبرمت مراراً، إلا أنه لا يلوح في الأفق أي احتمال لاقتراب إنهاء الحالة الفلسطينية الداخلية السائدة الآن، والتوجه إلى الشعب ليحسم أمره من خلال انتخابات. وكذلك إعادة بناء وصيانة منظمة التحرير حول مشروعها الوطني التاريخي، من جهة أخرى. فالمنظمة تبقى الإطار الشامل لكل الشعب، وليس السلطة الوطنية. واستمرار هذه حال يعزز التقدير بأننا مقبلون على مرحلة أخرى من المراوحة في المكان، عدا استفحال الاستيطان وتوسعه، وفق المخططات الديناصورية التي تكشفت في الأيام الأخيرة، لإدخال مئات آلاف المستوطنين الجدد إلى القدس والضفة والجولان في السنوات الست المقبلة.