استشراف متغيّرات استراتيجية بازغة في العالم
د. عصام نعمان
ثمة عالم جديد يتكوّن فوق ما تبقّى من عالمٍ استولدته تداعيات حربٍ عالمية ضارية وضعت أوزارها سنة 1945، وتميّزت بتحوّل الولايات المتحدة الأميركية دولةً عظمى تستبطن وحدانية قطبية وسيطرة متزايدة على الكوكب الأرضي بلغت ذروتها بقيام حلف شمال الأطلسي، وارتقت به الى مرتبة القطب الأكبر والأقوى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن العشرين.
مع ترميم روسيا لقدراتها، وتنمية الصين لاقتصادها، وصعود اليابان والكوريتين في الشرق الأقصى والهند في جنوب شرق آسيا، وتركيا وإيران في الشرق الأوسط، أخذت القطبية الأميركية بالانحسار تدريجياً ما أدّى الى بروز عشر حقائق ساطعة تؤشر الى ولادة عالم جديد متعدّد الأقطاب، وتراكم تداعيات تؤشر بدورها إلى تحوّلات جديدة لافتة:
أولاها: تداعي عالم الوحدانية القطبية الأميركية وأفول مشروع الولايات المتحدة لجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً، وبزوغ تباشير عالم متعدّد الأقطاب والقوى والتجمعات القاريّة المتنافسة والمتصارعة.
ثانيتها: تراجع سيطرة الولايات المتحدة ونفوذها في غرب آسيا عموماً، تبدّى في خروجها المهين من افغانستان ومسارعتها إلى تعزيز وجودها العسكري في العراق، ونشر المزيد من قواتها في شمال شرق سورية حيث مكامن النفط وآباره، واحتضانها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) المتمردة على الحكومة المركزية في دمشق.
ثالثتها: نجاح إيران في تجاوز تداعيات الحصار والعقوبات الاقتصادية الأميركية، والتقدم في تطوير برنامجها النووي ما وضعها على عتبة إنتاج قنبلة نووية، وفي تطوير صواريخ باليستية بعيدة المدى، وإطلاق قمر اصطناعي إلى الفضاء الخارجي.
رابعتها: قيام أميركا و”إسرائيل” بتنفيذ مخطط استراتيجيّ متكامل لمواجهة محور المقاومة، قوامه:
(أ) تعزيز الحصار والعقوبات الاقتصادية على إيران وسورية وفصائل المقاومة الناشطة في لبنان وفلسطين المحتلة، وتنفيذ “قانون قيصر” القاضي بمعاقبة كل دولة او طرف يتعامل اقتصادياً مع الدول التي يستهدفها القانون المذكور.
(ب) تعزيز قدرات “إسرائيل” العسكرية، وتوفير التغطية السياسية والإعلامية لاعتداءاتها على الدول والأطراف المستهدَفَة بالعقوبات الاقتصادية.
(جـ) اعتماد خطة متكاملة لتفكيك سورية الى كيانات تقوم على أساس قبلي او طائفي او اثني، ودعم التنظيمات المسلحة الناشطة في مناطق شرق الفرات، والسوريين المتمرّدين على الحكومة المركزية في دمشق المتعاونين مع القوات الأميركية في وقتٍ تتجه تركيا وسورية الى المهادنة والمصالحة.
(د) ممارسة ضغوط شديدة للحؤول دون عودة النازحين السوريين في لبنان والأردن وتركيا الى ديارهم، والعمل على توطينهم حيث يقيمون ما يحرم سورية من نحو عشرة ملايين من أبنائها بذريعة الحؤول دون انتقالهم الى دول أوروبا.
خامستها: إغراق سورية في أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، تنطوي على:
(أ) ضائقة معيشية شديدة وشحّ في مواد الغذاء والدواء والوقود.
(ب) تدمير معامل توليد الكهرباء ومصافي تكرير النفط ما يؤدي الى انقطاع الكهرباء عن المناطق السكنية في المدن والأرياف.
(جـ) توقّف الجامعات عن العمل مع اضطرار الأساتذة الى التغيّب لشحّ البنزين والمازوت اللازمين لوسائل النقل.
(د) دفع الحكومة بسبب قلّة الموارد الى خفض دعم السلع الأساسية ما حَرَم ملايين المواطنين الحصول على الخبز المدعوم ومنتجات النفط.
سادستها: استفحال الأزمة السياسية المزمنة في لبنان وتفاقم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والفساد، ما أدّى الى:
(أ) عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
(ب) عجز حكومة تصريف الأعمال (وهي بحكم المستقيلة أصلاً) عن مواجهة المشاكل والصعوبات الاقتصادية المتزايدة.
(جـ) شلل الإدارات والمؤسسات العامة لتغيّب الموظفين، كما السلطة القضائية بسبب إضراب القضاة.
(د) تزايد الأعباء والتداعيات الناجمة عن وجود أكثر من مليون وأربعمئة ألف نازح سوري.
سابعتها: قيام حكومة عنصرية وفاشية إسرائيلية جديدة، ما أدى الى:
(أ) تأكيد رئيسها بنيامين نتنياهو على اعتزامها توسيع الاستيطان في كل أنحاء فلسطين المحتلة، خصوصاً في الضفة الغربية، كما في الجولان السوري المحتلّ.
(ب) تسليم وزارتي الدفاع والأمن القومي الى وزيرين من دعاة طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية بغية ضمها تالياً الى الكيان الصهيوني.
(جـ) تصاعد دعوة الصهاينة الفاشيين إلى ضرب إيران قبل اكتمال قدرتها على امتلاك سلاح نووي.
ثامنتها: ارتفاع وتائر الرفض الشعبي العربي الشامل للكيان الصهيوني، وقد تجلّى في:
(أ) تصاعد دعم الجماهير العربية لمقاومة الشعب الفلسطيني للعدو الصهيوني، وتثمين العمليات الاستشهادية لأفراد غير منضوين في فصائل المقاومة، كما مسارعة فصائل المقاومة الى رصّ صفوفها والارتقاء بأساليب تعاونها وجهادها.
(ب) تجاوب مختلف فئات الشعب العربي مع المقاومة الفلسطينية كما تجلّى في شعارات وهتافات الجماهير في مهرجان المونديال الرياضي العالمي في قطر ورفض الناس التعاطي مع الإعلاميين الإسرائيليين.
تاسعتها: تصاعد عمليات المقاومة ضد العدو في مختلف مناطق فلسطين المحتلة، وتزايد المؤشرات الدّالة الى توسّعها نتيجةَ تعاون فصائل المقاومة، والاتجاه الى توحيدها كردّ فعل منتظر على تدابير الحكومة الصهيونية الفاشية الجديدة.
عاشرتها: نهوض القوى الوطنية الملتزمة وحدة الأمة ونصرة المقاومة الفلسطينية إلى اعتماد برناج شعبي ورسمي لتحرير الوطن السليب على مستوى الوطن العربي والعالم، من خلال:
(أ) دعوة الهيئات والأحزاب والمنظمات والشخصيات القيادية الملتزمة مبدأ وحدة الأمة ونصرة المقاومة الفلسطينية الى تنظيم لقاء شعبي جامع في بيروت بتاريخ 22 شباط/فبرايز 2023 (ذكرى وحدة مصر وسورية) من أجل:
(أ) إعلان التضامن والدعم الكاملين لسورية بما هي “قلب العروبة النابض”، كما وصفها الزعيم الخالد الذكر جمال عبد الناصر، والعمق الاستراتيجي والظهير القومي الدائم لقضية فلسطين ومقاومة شعبها المجاهد في وجه الهجمة الأميركية – الصهيونية عليها، والتوافق على برنامج شعبي ورسمي متكامل لفك الحصار ورفع العقوبات ودعم سورية شعباً وحكومةً في هذه المرحلة العصيبة.
(ب) إقرار برنامج متكامل لنصرة المقاومة الفلسطينية ودعمها تكون قد أعدّته لجنة المتابعة في المؤتمر العربي العام.
(جـ) الحرص على تضمين برنامج نصرة المقاومة الفلسطينية ودعمها بالتدابير الآتية:
- دعوة الدول العربية الملتزمة قضية فلسطين ونصرة شعبها المقاوم الى العمل على اعتماد هذا البرنامج في جامعة الدول العربية كما في مواقف الدول الصديقة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية.
- إقرار ومتابعة تنفيذ الاقتراح المطروح على الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطلب من محكمة العدل الدولية في لاهاي إبداء الرأي في قانونية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والوسائل الآيلة الى إخلاء “إسرائيل” للأراضي المحتلة.
- في حال امتناع “إسرائيل” عن تنفيذ رأي محكمة العدل الدولية يُصار الى عرضه على مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار بتنفيذه.
- دعوة السلطة الفلسطينية الى التوافق مع الدول العربية والصديقة على مطالبة مجلس الأمن الدولي باتخاذ قرارٍ يطلب من المحكمة الجنائية الدولية محاكمة وزراء وضباط ومسؤولين في حكومة “إسرائيل” لارتكابهم جرائم عنصرية وجزائية يطالها القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الانسان وميثاق الامم المتحدة.
- تنظيم مسيرات وتظاهرات شعبية في عواصم الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لحثّها على إقرار الاقتراحين آنفي الذكر.
هذا أبسط ما يمكن أن تقوم به الدول العربية والصديقة الملتزمة نصرة قضية فلسطين لإبقائها حيّة في ذاكرة الشعوب وقلوب المناضلين في شتى أنحاء العالم ضد الاحتلال والعنصرية وقهر الناس من كلّ أمةٍ ودين.