لماذا لم تتسامح الأغلبية اليهودية مع حكومة إسرائيلية اعتمدت على العرب؟
محمد هلسة
تختلف الأحزاب العربية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 48 عن بعضها البعض أيديولوجياً، ولديها وجهات نظرٍ متفاوتة حول الموقف السياسي من "الدولة" والأحزاب اليهودية.
أما وقد انفضت حكومة بينت – لابيد، الحكومة الإسرائيلية الـ 36 التي شارك فيها حزب "القائمة العربية"، أو ما يُعرف بـ "راعم" بزعامة منصور عباس، فإنه يمكن للمرء، ومن وحي هذه التجربة القصيرة جداً التي استمرت عاماً واحداً فقط، أن يتساءل هل كانت نجاحاً أثبت أن المجتمع العربي الفلسطيني في العقل الإسرائيلي يمكن أن يكون شريكاً في أي مكان، أم أنها أتت وفقاً للمثل الإسرائيلي الدارج "ليس حُباً في مردخاي ولكن كراهيةً في هامان"!، أي، بعبارةٍ أخرى، أتت كردةِ فعلٍ عابرة لأزمة سياسية غير مسبوقة أحاطت باستمرار حكم نتنياهو، زعيم الليكود، والتي لم تسمح لأحزاب اليمين واليسار الوسط بتشكيل حكومة، وأسفرت عن أربع جولاتٍ انتخابية واحدةً تلو الأخرى.
لا شك في أن الأحزاب العربية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 48 تختلف عن بعضها البعض أيديولوجياً، ولديها وجهات نظرٍ متفاوتة حول الموقف السياسي من "الدولة" والأحزاب اليهودية، ومدى إمكانية الانخراط في ائتلافٍ حكومي يهودي. مُنطلق الأحزاب العربية هو أنه لا توجد اختلافاتٌ جوهرية بين اليمين واليسار والوسط في "إسرائيل" في ما يتعلق بنظرتها ونهجها التمييزي تجاه المجتمع العربي. ولذلك، فإن قرارها المشاركة في النظام السياسي الإسرائيلي يطرح عليها أسئلةً تتعلق بكيفية الموازنة بين الاهتمام باحتياجات الجمهور العربي، وموقفها السياسي المبدئي من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المستمر!
بعد الانشقاق عن "القائمة المشتركة"، ذَهَبَ زعيم حزب "القائمة العربية"، منصور عباس، إلى تبني النهج القاضي باستنفاد إمكانيات التعاون مع أيٍ من الأحزاب اليهودية، والاندماج في ائتلاف حكومي بهدف إحداث تغييرٍ جوهري في طبيعة "الدولة"، وتعزيز المصالح المدنية الحيوية للعرب بشكلٍ فعّال. وبالطبع، لا يمكن تحقيق ذلك، وفقاً لعباس، باستمرار الجلوس في كُرسي المعارضة، بل يجب الانتقال من سياسة الاحتجاج إلى سياسة عملية أكثر، من خلال تطوير القانون في الممارسة والانضمام إلى أي حكومة، حتى لو كانت يمينية. اختار "راعم" المشاركة بشكلٍ علني في محادثات تفاوض ائتلافية تتمحور حول "أجندةٍ مدنية" في خطوةٍ غير مسبوقة، وحتى من دون تولي مناصب وزارية. علماً بأن هذه التجربة، القصيرة جداً، كانت هي المرة الأولى التي يشارك فيها حزبٌ عربي في ائتلافٍ حكوميٍ يهودي، إذ لم يسبق لأي حزبٍ عربي منذ إقامة "دولة إسرائيل" أن شارك في حكومة بشكلٍ فعلي، إنما دَعَمت بعضُ الأحزاب العربية الحكومة من الخارج، وفق تجارب سابقة. رأى الجميع، عرباً ويهوداً، في هذه الخطوة سابقةً وتطوراً يمكن أن تكون له تداعياتٍ كبيرة في السياسة الإسرائيلية، وعواقب تنذر باتساع الانقسام السياسي المتعمق بين اليهود حول مسألة قبول مشاركة حزب عربي في الحكومة.
حدث هذا التطور في النظام السياسي الإسرائيلي في ذروة الأزمة السياسية المستمرة التي جعلت من المستحيل تشكيل ائتلاف، وبالتالي تشكيل حكومة، وتطورت عملية "شَرعَنة الصوت العربي" في نظر معظم الأحزاب اليهودية، من اليمين إلى يسار الوسط، بسبب ما أفرزته الانتخابات المتكررة من تعادلٍ مستمر بين الكتل الانتخابية وظهور الإمكانات الحاسمة للصوت العربي بالنسبة لها، ولهذا الغرض أطلقت الأحزاب اليهودية رسائل "مُعتدلة"، منها إمكانية دمج الأحزاب العربية في تحالفٍ حكومي.
يعتمد تفسير تقبّل حكومة إسرائيلية تضم حزباً عربياً وتستند إليه في وجودها على عاملين مهمين: الأول هو التغيير في السياسة اليهودية إثرَ انشقاق أحزاب "اليمين اليهودي"، ما استدعى ضرورة وجود حزبٍ عربي من أجل تشكيل حكومة. أما العامل الآخر، والمهم بالقدر نفسه، فهو انقسام الأحزاب السياسية العربية الذي دفع حزباً عربياً إلى التخلي عن سياسة المواجهة في المعارضة، والسعي للدخول في أي تحالفٍ يهودي حتى لو كان يمينياً، وهو ما أنتج شراكةً سياسية يهودية - عربية في تحالفٍ مع حكومةٍ يرأسها "نفتالي بينت"، زعيم البيت اليهودي الصهيوني المتطرف ورئيس مجلس المستوطنات سابقاً، ويرأس ماليتها، أفغدور ليبرمان، العُنصري الذي طرح نقل المواطنين العرب في "إسرائيل" إلى الدولة الفلسطينية!.
تضافرت الظروف التي أدت إلى تشكيل حكومة بمشاركة طرفٍ عربي، لكن الاعتراضات اليهودية على مشاركة الأحزاب العربية في الحكومة ظلت حاضرةً بقوة، ومنها الارتباط بالشعب الفلسطيني، ونفي الطابع اليهودي لدولة "إسرائيل"، وافتقاد الأغلبية اليهودية في الحكومة. وقد أعربت الأحزاب الصهيونية الدينية عن معارضةٍ قوية لتشكيل ائتلافٍ حكومي بدعم من حزبٍ عربي. وبحسبهم، فإن أعضاء الكنيست العرب هم من مؤيدي الإرهاب ولا يعترفون بـ"إسرائيل" كدولة يهودية، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا شركاء سياسيين شرعيين. بالنسبة لهم، فإن "راعم" هي فرعٌ من جماعة الإخوان المسلمين التي تُنكر حق "إسرائيل" في الوجود، وبالتالي يجب عدم اعتبارها حزباً شرعياً لتشكيل ائتلاف حكومي معها، حتى لو كانت الأحزاب اليمينية في أزمة سياسية قد تقودها إلى الخسارة، والتعاون مع "راعم" يتجاوز الخط الأحمر، ولا يمكنهم السماح بتكرار قضية حكومة رابين الثانية التي اعتمدت على "كتلة مانعة" من الأطراف العربية، وأنتجت اتفاق أوسلو.
لسنا بصدد الحديث عمّا تمكنت، أو لم تتمكن، الحكومة المنتهية ولايتها من تحقيقه للوسط العربي الذي يبلغ تمثيله في مؤسسات "دولة إسرائيل" حالياً 13.2٪ فقط، ولا يوجد لهم تمثيلٌ بالمُطلق في بعض الوزارات الحكومية التي تتخذ قراراتٍ مصيرية بشأن حياة العرب ومستقبلهم، لأن النتيجة النهائية التي أفرزتها هذه الحكومة مفادها أنه لا تزال هناك أغلبية يهودية بارزة لا تستطيع تَحمّل حُكومة تعتمد على حزبٍ عربي لأكثر من عام. وقد وصف رئيس المعارضة، في حينه وزعيم الليكود بنيامين نتنياهو، قرار خصومه السياسيين حلّ الحكومة ودفع الانتخابات قُدماً بأنه "إعادة الكبرياء الوطني لمواطني إسرائيل، فالحكومة اعتمدت على مؤيدي الإرهاب، وعرّضت الصورة اليهودية لبلدنا للخطر".
يعتقد الجمهور اليهودي أن المواطن العربي الذي يُعرّف نفسه بأنه "عربي فلسطيني في إسرائيل" لا يمكن أن يكون مُخلصاً لـ"دولة إسرائيل" وقوانينها، وبالتالي يستمر في إدارة ظهره لإمكانية إضفاء الشرعية السياسية على المجتمع العربي. في الاستطلاع الذي أجراه معهد دراسات الأمن القومي (تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، تبين أن ما يقرب من 60٪ من الجمهور اليهودي يوافقون على أنه يجب عدم تشكيل حكومة مع الأحزاب العربية. وكشف الاستطلاع الذي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي (أيار/ مايو 2021) أن نحو 30٪ فقط من الجمهور اليهودي يؤيد تشكيل حكومة بمشاركة الأحزاب العربية. ولم يكن من المُستغرب أن تتركز المعارضة في الجمهور اليهودي في أحزاب اليمين، الذين يؤمنون بأن مفهوم "الأغلبية" في "حُكم الأغلبية" هو الأكثرية اليهودية لأن العرب ليسوا من "الشعب"!.
أصبحت مسألة "شرعية الأحزاب العربية"، ولأول مرة، قضيةً مركزية في الأجندة الإسرائيلية، لكن "زيادة" شرعية الأحزاب العربية لم تكن نتيجة لعملية طبيعية وطويلة وصلت إلى مرحلة النُضج، بل نتاج ظروفٍ سياسية عابرة سبقت الإشارة إليها. وهذا يعني أن "الشرعية السياسية" للصوت العربي هشة وغير قائمةٍ بذاتها، لأنه عندما تحدث مصالحة داخلية بين أحزاب اليمين أو الوسط اليهودية، لن تكون الأحزاب العربية ضرورية لهم لتكوين ائتلاف، ومن المرجح في هذه الحالة أن تتآكل شرعية الأحزاب العربية، بل أن تنتهي. من المشكوك فيه جداً ما إذا كانت مشاركة حزبٍ عربي في الحكومة ستؤدي إلى مزيدٍ من "التكامل الاجتماعي" بين العرب واليهود، وإلى قبول العرب "إسرائيل" كدولة يهودية وصهيونية، وإلى إضعاف روابطهم بالشعب الفلسطيني.
ستستمر "إسرائيل"، كسلطة احتلال، في كونها مجتمعاً منقسماً بعمق بين العرب واليهود، وستظل السياسة العربية سياسة مواجهة إلى حدٍ كبير، لذلك يمكن الافتراض أن أحزاب الكتلة اليمينية اليهودية ستتجنب إشراك الأحزاب العربية في الائتلاف في المستقبل قدر الإمكان، لأنه ثبت أن هذه الشراكة تعتمد على علاقة ظرفية مؤقتة، ويمكن التخلي عنها إذا لم تؤتِ ثمارها.