kayhan.ir

رمز الخبر: 163051
تأريخ النشر : 2023January02 - 21:03

استراتيجية الأمن القومي الأميركي.. وسنة 2023 في "عقد حاسم" مع الصين

 

وسام إسماعيل

الوثيقة الإستراتيجية الأميركية الأخيرة المتعلقة بالسياسة تجاه الصين، تؤكد انعدام أي إمكانية لمواجهة مباشرة بين القوى الكبرى، حيث ستبقى آليات ربط النزاع التي سادت في الفترة الماضية قائمة مع تسخين أكثر للجبهات.

لم تكن استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنت عنها إدارة بايدن في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 الأولى من نوعها، إذ تحرص كل إدارة أميركية على تظهير مشروعها وفق إطار نظري يقدم رؤية شاملة لكيفية تعاطي الولايات المتحدة الأميركية مع القضايا الدولية المعاصرة، بالإضافة إلى تضمينها ما تعدّه رداً على التهديدات التي تحيط بالنظام الدولي الذي دأبت على المحافظة عليه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. في الإجمال، يمكن التأكيد أن الثوابت المميزة لأغلب الإستراتيجيات التي صدرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تكاد تكون واحدة، إذ تشدد جميعها على محورية الدور الأميركي في تحقيق الاستقرار العالمي، مع التركيز على الجانب القيمي المرتبط بأفضلية النظام الأميركي كنموذج صالح للحكم، وكمعيار لتقييم شرعية الأنظمة الأخرى المناوئة.

من الممكن اعتبار تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي مفصلياً لناحية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، إذ إن النظام العالمي الذي ساد منذ عام 1945 قد انهار مع سقوط جدار برلين وما عناه هذا التاريخ من تغيّر جذري في شكل التوازنات الدولية والنظام العالمي. لكن عدداً من المحطات التاريخية التي من الممكن اعتبارها في الجانب الأميركي قد أثرت في مشروعه، بطريقة أكثر فعالية مما شكله انهيار المنظومة الاشتراكية المنافسة، كالهزيمة في فيتنام أو الانسحاب الأحادي من أفغانستان أو غير ذلك. وعليه، بقيت السياسات الأميركية محكومة بتأثيرات هذه الأحداث، إذ طبعت سياق الإستراتيجيات الأميركية ابتداءﹰ بنيكسون وصولاﹰ حتى إستراتيجية بايدن المسماة "إستراتيجية العقد الحاسم".

بالطبع، تحرص كل إدارة على إظهار إستراتيجيتها للأمن القومي على أنها حاسمة لناحية مستقبل الولايات المتحدة الأميركية وموقعها في النظام الدولي؛ فحين سوّقت إدارة الرئيس باراك أوباما، من خلال إستراتيجية عام 2015، لنهائية دور الولايات المتحدة في قيادة العالم، لم تكن قد قدمت الشيء الجديد عن إستراتيجية إدارته عام 2011. وكذلك بالنسبة إلى الرئيس السابق دونالد ترامب، فإن ما قدمه من خلال إستراتيجيته لعام 2017 لم يكن بعيداً عن ما ظهرته إدارة جون بايدن في وثيقة إستراتيجيتها الأخيرة. فالتركيز على الخطرين الروسي والصيني كان السمة المشتركة لدى هذه الإدارات، مع الإشارة إلى محاولة كل إدارة لإظهار إستراتيجية الإدارات السابقة على أنها فاشلة أو منقوصة، كما حاول الرئيس باراك أوباما أن يسوق لإستراتيجيته عام 2011 على أنها محاولة لترميم صورة الولايات المتحدة الأميركية التي شوّهها جورج بوش الابن في حروبه العبثية في العراق وأفغانستان. ولم تختلف الحال كثيراً مع دونالد ترامب الذي ركز على ما عدّه إخفاقات السياسة الخارجية لسلفه، وكذلك جون بايدن الذي يركز دائماً على مزاجية دونالد ترامب وشخصانية قراراته التي لا تستند إلى أي معطى موضوعي، خصوصاً لناحية شعبوية خياراته التي كادت تؤدي إلى فقدان الثقة بالولايات المتحدة كحليف موثوق.

على الرغم من كل الضجيج الذي أثارته سياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية، لم تخرج إستراتيجيات الأمن القومي كلها، منذ سبعينيات القرن الماضي، باستثناء فترة حكم جورج بوش الابن، عن أطر عقيدة نيكسون التي يمكن اختصارها في قرار التحوّل من التدخل العسكري المباشر إلى الدعم الاقتصادي والعسكري، مع الإشارة إلى ضرورة أن تتولى الدولة المعرضة للتهديد المسؤولية الرئيسية في ما يتعلق بالعنصر البشري اللازم لدفاعها عن نفسها. وعلى هذه الحال، استقرت الوثيقة الإستراتيجية لإدارة جون بايدن، إذ إن الدعم الذي تتلقاه أوكرانيا لن يتجاوز حدود الدعم العسكري والمادي إلى ما يمكن عدّه انغماساً أميركياً في حرب ضد روسيا. أما بالنسبة إلى الصين التي شكلت في الوعي الأميركي قناعة بامتلاكها الإمكانية والإرادة لإعادة تشكيل النظام العالمي، فإن الوثيقة قد حاذرت في إستراتيجية التعاطي معها من إمكانية الوقوع في مواجهة مباشرة معها. فالمخطط الذي تسوق الوثيقة لفاعليته قد حدد آلية التجاذب بين الطرفين، بحيث لا يتطور إلى حرب باردة والاكتفاء بمحاولة التأثير فيها من خلال إعادة تشكيل البيئة المحيطة بها. فالتحالفات التي سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى تمتينها ك"أوكوس" AUKUS و"كواد" QUAD بالإضافة إلى محاولة إضفاء طابع أيديولوجي على الصراع والتنافس مع الصين، من خلال تكريس الديمقراطية الأميركية الجذابة في مقابل نموذج الاستبداد الصيني، تخدم هذا الهدف، وتستبعد إمكانية وقوع مواجهة مباشرة.

من خلال تحليل "وثيقة العقد الحاسم"، تبرز إشكالية عدم تناسب الأدوات الأميركية المقترحة في الوثيقة مع فكرة اعتبار السنتين المقبلتين حاسمتين على مستوى الصراع. فالمنافسة الإستراتيجية التي تهدف لها الإدارة الأميركية من خلال ثالوث الاستثمار والتوافق والتنافس تفترض خططاً متوسطة أو طويلة الأمد. فالبحث العلمي والبنى التحتية وتدريب القوى العاملة على تكنولوجيا المستقبل لا يمكن أن تؤتي ثمارها في وقت قريب. كما تبرز أيضاً إشكالية تتعلق بالتوافق مع الحلفاء، إذ زادت الشكوك في الثقة بواشنطن واتساق سياساتها. فالانسحاب العشوائي من أفغانستان وكيفية مقاربة العلاقة بالحلفاء انطلاقاً من الحاجة الأميركية، بالإضافة إلى إمكانية الجنوح نحو الانعزالية، كما كان ظاهراً خلال فترة رئاسة دونالد ترامب قد أثر سلباً في ثقة الحلفاء. بالإضافة إلى ذلك، تبرز إشكالية الحذر الأميركي من الانغماس في مواجهات مباشرة والتشديد على ضرورة تحمل الحلفاء مسؤوليات تفوق قدراتهم وتتناسب في المقام الأول مع الأهداف الأميركية. هذا ما ظهر جلياً في أوروبا من خلال تجنيد أوروبا خلف أوكرانيا والأطلسي من دون مراعاة أمنها الطاقوي أو الأمني. في هذا الإطار، لا يختلف الموقف كثيراً في الإندوباسفيك، حيث تراكم الولايات المتحدة جهودها لتظهير الجوار الصيني على أنه أشبه بطوق تهدف من خلاله إلى تطويع القوة الصينية ودفعها إلى التخلي عن هدفها المفترض بتغيير النظام الدولي. لكن ما يظهر في الوثيقة يبرز خللاً جوهرياً عمّا تظهره الولايات المتحدة الأميركية في تعاطيها مع حلفائها في تلك المنطقة. فالتركيز الأميركي على المواجهة لا يتوافق مع الإيحاءات التي يمكن لمسها في الوثيقة لناحية التعاون الذي لا يمكن الهروب منه. تثير هذه النقطة إشكالية معقدة لناحية التساؤل عن جدية المواجهة في ظل تشبيك العلاقات مع الخصم، بما يجعل من إمكانية إقصائه أو تقييده أمراً معقداً أو مستحيلاً.

وعليه، يمكن الركون إلى نتيجة مفادها أن الوثيقة الإستراتيجية التي ظهرت منذ فترة قصيرة تؤكد انعدام أي إمكانية لمواجهة مباشرة بين القوى الكبرى، حيث ستبقى آليات ربط النزاع التي سادت في الفترة الماضية قائمة. لكن في ذلك إشارات إلى استعداد لتسخين الجبهات وزيادة الاستقطاب التي تعكس التنافس بين هذه القوى، بما يعيد إلى الأذهان سياسات الحرب بالوكالة التي سادت في مرحلة الحرب الباردة. أخيراً، يبقى أن نشير إلى أن هذه الوثيقة ستبقى مرهونة في تطبيقها لتمكّن جو بايدن من البقاء لفترة رئاسية ثانية، إذ إن إمكانية وصول مرشح آخر شبيه بدونالد ترامب قد ينسف هذا الجهد الإستراتيجي ليكرس مكانه مشروعاً يناقض جذرياً بنود تلك الوثيقة.