kayhan.ir

رمز الخبر: 162845
تأريخ النشر : 2022December30 - 20:05

العصابة أول وآخر مراتب الدولة في الصهيونية: بين أسطورة انتحار ماسادا وعقدة العقد الثامن

ناصر قنديل

ــ تقييم المشهد الجديد في كيان الاحتلال يجب أن يتحرر من نوعين من المقاربات الخاطئة، الأولى هي تلك المقاربات الأخلاقية التي تريد تصنيف الحكومات الصهيونية على قاعدة المفاضلة بينها بين سيئ وأسوأ ومجرمة وأشد إجراماً. وهذه مقاربة محكوم عليها بالفشل سلفا لأنها وهي تسعى لإدانة الحكومة الحالية تمنح صك براءة للحكومات التي سبقتها بصورة مخالفة للواقع والحقائق. فالحركة الصهيونية والحكومات المنبثقة عن كيان الاغتصاب والاحتلال والتهجير، إطار فكري عقائدي وسياسي وواقعي قائم على القتل واستباحة الدماء وتبرير التهجير والإجرام، ولا خلاف بين صهيوني وآخر على هذه القواعد المفاهيمية للعقيدة والكيان. والنوع الثاني من المقاربات المطلوب استبعاده هو النوع الذي يسعى لتحديد تغير مستويات درجة الخطر على الفلسطينيين ومقدساتهم وحقوقهم ودورة حياتهم ودرجة أمانهم الجماعي والشخصي في ظل الحكومات الصهيونية. وفي هذا السعي شبهة واشتباه، شبهة مصدرها تبييض صفحة قتلة ومجرمين بتقديمهم أقل خطراً من قتلة ومجرمين آخرين، واشتباه فكري بالظن بأن ثمة اختلافاً بين الصهاينة حول القتل واستباحة الدم.

ــ المقاربة التي نسعى إليها يجب أن تنطلق من محاولة قراءة ما تشير إليه الحكومة الصهيونية الجديدة من بلوغ المشروع الصهيونيّ مرحلة جديدة في تطوره ومأزقه معاً، لأن هذا المشروع منذ ولادته محكوم بتزاوج مساري التطور والمأزق، فهو مشروع قائم على حشد هائل لفوائض القوة المالية والتسليحية والبشرية والدبلوماسية والإعلامية والعقائدية، وبالتوازي نقص فادح في القيمة المضافة التي يمثلها الاحتكام لسلم القيم الإنساني الطبيعي، باعتبار المشروع قائماً أصلا على اغتصاب الحقوق والأراضي والبيوت وتهجير أهلها وسرقة غلالها وقتل الرجال والنساء والأطفال والسير بعكس الطبيعة والمعايير الأخلاقية والقانونية، بحيث إن حجم فائض القوة يوفر قوة اندفاع هائلة لمسيرة الكيان وقدرته على الحياة، والرصيد السلبي في القيمة المضافة التي تمثلها درجة المواءمة مع الطبيعة الإنسانية وسلم القيم الأخلاقي تبشر بحتمية زوال هذا الكيان الشاذ.

ــ مثلت ستينيات القرن العشرين المرحلة الذهبية في تاريخ الكيان، حيث خاض حربه الكبرى عام 1967 وحقق فيها نصراً ساحقاً على الصعيد العسكري، ترجمت في السياسة بالتخلص من المشروع الأشدّ خطورة على مستقبل الكيان الذي مثله جمال عبد الناصر. وفي هذه المرحلة الذهبية نجح الكيان عبر حزب العمل بإنجاز التحوّل من مرحلة العصابة التي قام عليها الكيان مع نموذج الهاغاناه والأرغون والشتيرن التي قام الكيان على أيديها، ليدخل مرحلة “الدولة” بتشكيل مؤسسات عسكرية وأمنية وقانونية وقضائية هي التي تدير الأمن وتتولى مهام العسكرة والحراسة والحروب، وأنجز تحولاً موازياً من مرحلة التعاونيات الزراعية الصغيرة التي مثلتها الكيبوتسات، إلى مرحلة الشركة واقتصاد السوق. ومع هذين التحولين في بنيته التحتية أنجز الكيان تحولاً ثالثاً في السياسة محوره الانتقال من الكنيس الى الكنيست، جوهره قيادة حزب علماني كبير يمثله حزب العمل يؤمن بالعقيدة الصهيونية، لكنه يمارس السياسة على الطريقة الغربية ويريد تقديم الكيان عضواً أصيلاً متقدماً في المجتمع الغربي، إدراكاً لكون ضرورات الأمن الاستراتيجي للكيان لا تتحقق خارج هذا الإطار.

ــ منذ حرب تشرين 1973 دخل الكيان في سلسلة تراكمية من التحوّلات، سواء تحت وطأة الهزائم أن تحت تأثير الانتفاضات الفلسطينية، وخصوصاً الفشل في حل معضلة الاحتلال في لبنان بطريقة تحفظ معادلات الردع التي يقوم عليها الكيان، وتدريجياً صار الحديث عن تآكل قدرة الردع موضع تسليم داخل الكيان وخارجه، وصار النقاش حول جدوى الدولة والسياسة والجيش والقضاء والقانون، تصاعدياً، وشكل اغتيال رئيس الوزراء الأهم في تاريخ الكيان إسحاق رابين في ذروة مشروعه التفاوضي المنبثق من مؤتمر مدريد الذي رعته واشنطن كترجمة لمشروع سيطرتها على العالم بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، نقطة تحول فاصلة في التوازن بين الكنيس والكنيست وبين نظرية “الدولة” و”العصابة” في الأمن الاستراتيجي للكيان وتوصيفه. وجاءت معركة سيف القدس في أيار عام 2021، تحولاً نوعياً جديداً، عبر تظهير الفشل الاستراتيجي للجيش والكنيست في حفظ أمن الكيان، وانتقال التحدي الأمني الاستراتيجي من الخارج إلى الداخل، لتكتمل دورة العودة العكسية، من “الدولة” الى “العصابة”، ومن الكنيس الى الكنيست، لكن دون الانتقال من الشركة إلى الكيبوتس الزراعي بل الى اقتصاد كيبوتسات المستوطنات اللاعبة في الفضاء الافتراضي، والطريق المعكوس للصعود هو دوماً طريق الأفول.

ــ يترافق ظهور الحكومة الجديدة برئاسة نتنياهو مع كونه ترجمة لهذه التحولات، مع نقاش وجودي يهزّ أركان الكيان تحت عنوانين متلازمين، واحد تعبر عنه استعادة أساطير البطولة اليهودية عبر سردية يقدّمها الحاخامات السياسيون في حكومة نتنياهو الجديدة عن أن فلسطين التاريخية بما فيها الجليل والنقب والضفة الغربية وفي قلبها القدس، ومعها الجولان السوري المحتل، هي قلعة ماسادا التي احتمى فيها وقاتل منها أجداد الصهاينة، مناحيم واليعازر، وبمعزل عن درجة صدقية الرواية، فالنهاية واحدة وهي الانتحار في القلعة وإعلان سقوطها، والثاني تعبر عنه مخاوف عقدة العقد الثامن من عمر الكيان، التي كان أقوى من عبر عنها كل من كلام ايهود باراك الذي كرره بأسلوبه بنيامين نتنياهو، لأن دولة بني “إسرائيل” التي يتحدث عنها الصهاينة كخلفية تاريخية لقيام الكيان، لم تعش لمرتين قامت خلالهما، أكثر من ثمانين عاماَ، والكيان مهدد بخطر الزوال في عمر الثمانين. وفي الحالتين، الانتحار اليهودي عبر القتل المتبادل حتى الفناء، في قلعة ماسادا، (مسعدة) حيث يقوم المتجمعون داخلها بقتل بعضهم بعضاً طلباً للانتحار، او في فناء عمر الثمانين، حيث تتقاتل القبائل اليهودية حتى الفناء، تشكل حكومة نتنياهو الجديدة تعبيراً عن اللحظة التاريخية للانتحار والفناء وحروب “القبائل”، حيث يتحدث رئيس الكيان السابق رؤوف زيفلين عن أربع قبائل تتقاسم الكيان، العلمانيون 38% و27% عرب، و25% يهود أصوليون دينيون و15% يهود صهاينة متطرفون، وتذوب كتلة العلمانيين برأي زيفلين تدريجياً لصالح تعاظم مكانة كتلتي الأصوليين الدينيين والصهاينة المتطرفين، اي جماعة الكنيس بدلاً من الكنيست والعصابة بدلاً من الدولة، وما يجري مع حكومة نتنياهو عملياً هو سيطرة الكنيس على الكنيست وسيطرة العصابة على الدولة، وصولاً لسيطرة الميليشيا على الجيش، وهذه كلها وصفات الانتحار في قلعة ماسادا أو الموت قبل الثمانين في حروب أهلية متعددة الجبهات.