حكومة إسرائيليّة يمينيّة وانشقاقات اجتماعية بيروقراطية حادة مرتقبة
شرحبيل الغريب
ما يجري في "إسرائيل" ليس انشقاقاً سياسياً فحسب، فالانشقاق السياسي قائم منذ أمد طويل. إن ما يجري هو انشقاق اجتماعي وبيروقراطي.
اكتملت الخطوط العريضة بين أطراف الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الجديد، وأعلن بنيامين نتنياهو، قبل دقائق من انتهاء التفويض الممنوح له، نجاحه في تأليف الحكومة الإسرائيلية التي تضم أحزاباً متشددة، بعد فوز الليكود الإسرائيلي وحلفائه من الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة بالأغلبية في الانتخابات الإسرائيلية الخامسة، وهو الآن بانتظار نيل الثقة بعد عرض تشكيلته على الكنيست الإسرائيلي في 2 كانون الثاني/يناير القادم.
تشكيلة الحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو تعد الأكثر تطرفاً وسفوراً في تاريخ "إسرائيل"، فبعدما كان قادة التطرف والعربدة على القانون محل هجوم لاذع وانتقاد كبير من نتنياهو شخصياً، أصبحوا الآن شركاءه الفاعلين في رسم السياسة الإسرائيلية، إذ إن أبرز ما اتفق عليه في هذه الحكومة هو تسليم وزارة الأمن القومي للمتطرف إيتمار بن غفير، وتسليم وزارة المالية للمتطرف بتسلئيل سموتريتش مع بعض الصلاحيات في وزارة الحرب الإسرائيلية.
المشهد الإسرائيلي يشير إلى هواجس وانشقاقات تطال البنية السياسية والمؤسساتية داخل "إسرائيل"، رغم نجاح نتنياهو في تأليف حكومته، إذ تساءلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن مآلات ما بعد تأليف هذه الحكومة فقالت: "كيف سيتعامل القسم اليهودي في جهاز الشاباك مع هذه الحكومة؟ الحكومة تتشكل ومعها تحديات جديدة، أبرزها كيفية إحباط الإرهاب اليهودي. الوضع مقلق بالنسبة إلى الشاباك، لأنه سيواجه حزباً سياسياً متطرفاً بقيادة بن غفير، الذي كان قبل سنوات حزباً تخريبياً، والآن أصبح حزباً يتمتع بسلطة سياسية، ناهيك بعنف المستوطنين في الضفة الغربية، وسينال دعم المتطرف سموتريتش، ليتفاقم الصراع مع الفلسطينيين لاحقاً".
وتضيف الصحيفة: "أبرز الأسئلة هنا: ما مدى شرعيّة جهاز الشاباك وفعاليّته؟ كيف سيحمي نتنياهو الشاباك بعد أن يطالب المسؤول المباشر عنه بإغلاق القسم اليهودي فيه؟! كيف سيتصرف تجاه مطالب إلغاء أوامر الاعتقال الإداري للمستوطنين. إن حكومة يشارك فيها بن غفير وسموتريتش ستخلق انشقاقات محتملة مع بقية الأطراف السياسية في إسرائيل، وستختلط الأوراق ببعضها البعض داخل المؤسسات الرسميّة".
الهواجس التي يجري الحديث عنها في المشهد الإسرائيلي هي هواجس جدية بالفعل، وهذا يرجع إلى أن البرامج السياسية لبعض أحزاب الحكومة الإسرائيلية الجديدة تهدف إلى إحداث تغيير جوهري في النظام السياسي داخل "إسرائيل"، وهو ما سيحدث أزمة انشقاقات مستقبلية حادة جداً، وسيشعل الانقسامات السياسية والفكرية والفلسفية بشكل كبير، في حال نفذت الحكومة كل برامجها.
وهنا، يمكن الدلالة والإشارة إلى قضية بالغة الأهمية، تتمثل بتداعيات مقترح القانون الذي يسعى لتقييد المحكمة العليا تحت عنوان "قانون التغلب"، وهو قانون يتيح للمحكمة الإسرائيلية العليا إلغاء أو إبطال قوانين شرعها الكنيست الإسرائيلي، وهذا يعد تغييراً جوهرياً في النظام السياسي الإسرائيلي، إضافة إلى إجراء بعض التغييرات فيما تعرف بوزارة الأمن "الدفاع" الإسرائيلية التي تم تفكيك صلاحياتها وتوزيعها على عدد من الوزراء، مثل إعطاء صلاحيات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1976 في الضفة الغربية لوزراء متطرفين ينطلقون بشكل واضح بأهدافهم إلى تعزيز الاستيطان وسرقة مناطق واسعة من الضفة الغربية، ناهيك بالتدخل في الهوية والمناهج وتحريفها بما يتماشى مع العقيدة اليهودية المتشددة.
أكبر هواجس في هذا السياق هو ما ألمح له وزير "الجيش" الإسرائيلي بيني غانتس لصحيفة "إسرائيل اليوم"، حين قال: "نحن نواجه خطراً من أن يتحول الجيش الإسرائيلي إلى جيش من المرتزقة يشكل تهديداً أمنياً إستراتيجياً، فمنذ قيام الدولة، كان الجيش هو الداعم لها، لكن لسوء الحظ، أبواب التجنيد باتت فارغة، ولا إقبال عليها"، وأضاف: "إن التجنيد مبني على القيم، وليس على القوانين. يجب الحث على الخدمة في الجيش. وما لم ننجح، قد يصبح الأمر قنبلة أمنيّة واجتماعية في إسرائيل".
تصريحات غانتس ليست بعيدة عن تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غادي أيزنكوت، الذي قال: "إن الإسرائيليين سيخرجون في تظاهرات مليونية في حال حدثت هذه التغييرات الجوهرية في النظام السياسي الإسرائيلي، لأن مثل هذه التغييرات سيؤدي إلى استبداد الأغلبية".
التطرف والداعشية الإسرائيلية القادمة ستأتي هذه المرة على شكل حكومة بلا أي ورقة توت تغطيها، وستتنكّر لكل الحقوق الفلسطينية. هذه الداعشية هي نتيجة سلوك طويل يسير المجتمع الإسرائيلي فيه بهدوء منذ الثمانينيات، وهذا التطرف الذي نشاهده اليوم وصل مع قدوم هذه الحكومة إلى ذروته، ما يعطي مؤشراً على أن الصعود اليميني في "إسرائيل" هو صعود ثابت لن يتوقف عند هذا الحد.
ما يجري في "إسرائيل" ليس انشقاقاً سياسياً فحسب، فالانشقاق السياسي قائم منذ أمد طويل. ما يجري هو انشقاق اجتماعي وبيروقراطي، وأكبر مثال على ذلك يكون عندما تصبح ما تسمى "وزارة الدفاع" الإسرائيلية مهمة لأكثر من وزير، وعندما يعلن المتطرف بن غفير شعاره الوحيد في الحكومة المتمثل بتطبيق القانون بالقوة، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد. وقد وصلت الحال في "إسرائيل" إلى أنَّ السعي من أجل الوصول إلى السلطة بدأ يدمّر المؤسّسة الإسرائيلية بشكل حقيقي لا يمكن إخفاؤه.
ثمة معادلة جديدة ستصبح عنوان المرحلة المقبلة في "إسرائيل" أمام حالة الاحتراب السياسي والانشقاق المجتمعي البيروقراطي الحاد، عنوانها المزيد من المتطرفين الشركاء في الساحة السياسية، ويقابلها المزيد من الانشقاقات الداخلية. مثل هذه الانشقاقات سيقضي على ما تبقى من تماسك داخلي إسرائيلي، وسيكون بداية النهاية لهذه الدولة المزعومة.
مثل هذا الاحتراب والانشقاق حذَّر منه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في الآونة الأخيرة وقال: "إن إسرائيل تشهد انشقاقاً خطراً يهدد بتقويضها من الداخل"، وهو موقف ينسجم تماماً مع ما ذهبت إليه مجموعة كبيرة من السياسيين الإسرائيليين الذين أجمعوا على أن سيطرة اليمين الديني المتطرف ستؤدي إلى نهاية "إسرائيل" على غرار الممالك اليهودية السابقة.