"بارود السلام" في اليمن: الفرص وخيارات التصعيد
علي ظافر
لم تخفِ صنعاء رغبتها في السّلام من دون أي شروط تنتقص من كرامة الشعب وسيادته، أو تدفعه إلى التنازل عن حقوقه واستحقاقاته، أو تنال من سيادة البلد.
لا تزال الأمور تراوح مكانها سياسياً وإنسانياً واقتصادياً، وعلى كل الصعد، ذلك أنَّ النقاشات لم تحدث أي اختراق في جدار الأزمة منذ نهاية الهدنة في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، ما ينذر بعودة التصعيد مجدداً على نحو غير مسبوق.
تقول مصادر دبلوماسية مطّلعة على سير النقاشات، سواء النقاشات المباشرة بين الرياض وصنعاء، أو تلك التي يتولى دفّتها المبعوثان الأممي هانس غروندبرغ والأميركي تيم ليندر كينغ، أو التي تتوسط فيها سلطنة عمان، "إن الهوة لا تزال عميقة جداً بين أطراف العدوان من ناحية، والجانب الوطني في صنعاء من ناحية أخرى، وألا تقدم يذكر في المسار التفاوضى على مدى الشهرين الماضيين".
هذا لا يعني أن غروندبرغ وليندر كينغ وسيطان بمعنى الوساطة بقدر ما يمثلان أجندة الولايات المتحدة الأميركية بدرجة أولى، ووكلائها في المنطقة (السعودية والإمارات)، ذلك أنَّ المهيمن على اهتماماتها وأجندتهما خلال الفترة الماضية كان، ولا يزال، استئناف عمليات تصدير أو بالأحرى نهب النفط الخام من الموانئ الجنوبية والشرقية لليمن، بمعزل عن الملفات الإنسانية المهمة والملحة وغير القابلة للنقاش والتفاوض، ونقصد بذلك ملف الحصار والمرتبات من دون انتقائية واستنسابية.
قبل قرابة أسبوع، قدم قائد الثورة عبد الملك بدر الدين الحوثي خلاصة مهمة في خطاب الافتتاح في الذكرى السنوية للشهيد بأنَّ "الأمور لا تزال تراوح مكانها"، في إشارة إلى الوضع العام والنقاشات المشار إليها سابقاً، مضيفاً أن "الأعداء في هذه المرحلة يحاولون وضعنا بين خيارات غير منصفة وغير عادلة، ولا يمكن أن نقبل التفريط في كرامة شعبنا أو حريته واستقلاله، ولا في مواقفنا المبدئية تجاه قضايا الأمة".
وتابع: "نحن حريصون على تحقيق السلام العادل والمشرف، ونحن في موقف الدفاع عن بلدنا وشعبنا"، وحذَّر في الوقت نفسه من "التصعيد بما هو أكبر من المراحل الماضية"، في حال عادت قوى العدوان إلى التصعيد العسكري والاقتصادي.
يحمل الخطاب في طياته عدداً من الرسائل والإشارات، ويبدو أن قوى العدوان تحاول عبر الوسطاء إقناع صنعاء بالعدول عن معادلة "حماية الثروة الوطنية"، وأنها نقلت بالتوازي مع ذلك تهديدات بإعادة تشديد الحصار على الواردات الأساسية النفطية وغير النفطية التي تدخل ميناء الحديدة، فكان الرد بشكل حازم هو رفض إيقاف هذه العمليات والتحذير من عمليات أكبر قد تتجاوز الموانئ الجنوبية والشرقية إلى موانئ دول العدوان وسفنه النفطية إن أقدم على التصعيد، اقتصادياً كان أم عسكرياً.
ويُفهم في الشقّ الثاني من رسائل الحوثي أن الوفود السعودية المتبادلة بين الرياض وصنعاء طلبت من الجانب الوطني قطع علاقاته بمحور المقاومة، وفي مقدمة ذلك حزب الله والجمهورية الإسلامية الإيرانية، كشرط من شروط التفاوض، فكان الرد كما يبدو، سواء بالسرّ أو في العلن، بأنَّ هذه العلاقات علاقات أخوية إيمانية إنسانية لا يمكن التراجع عنها، ويعزز ذلك حديثه عن أن "لا تراجع عن مواقفنا المبدئية من قضايا الأمة".
لم تخفِ صنعاء رغبتها في السّلام من دون أي شروط تنتقص من كرامة الشعب وسيادته، أو تدفعه إلى التنازل عن حقوقه واستحقاقاته، أو تنال من سيادة البلد، وفي مقدمتها أن يُسَخَّر النفطُ وعائداتُه لمصلحة خدمات كل الموظفين ومرتباتهم، وأن تتم إعادة إعمار ما دمرته الحرب وسحب كل القوات الأجنبية من المحافظات المحتلة كأرضية أساسية يمكن بعدها الولوج إلى مفاوضات سياسية مع الأطراف المحلية المدعومة من قوى العدوان.
وبما أنّه ليس هناك مفاوضات مباشرة مع الأميركي، فيبدو أنَّ السعوديين والوسطاء الإقليميين أطلعوا المبعوث الأميركي على مطالب صنعاء التي اعتبرتها الولايات المتحدة "تعجيزية"، واتهمت صنعاء، على لسان ليندر كينغ في إحاطته الثلاثاء الماضي أمام مجلس النواب الأميركي، بـ"عرقلة الجهود المبذولة للدفع بمسار السلام".
الواضح من خلال المداولات أنَّ الهوة لا تزال واسعة بين الطرفين، وأنَّ مقاربة الأميركي للسلام هي أن تبقى خريطة التقسيم التي رسمتها الحرب العدوانية كما هي، وأن يبقى الحصار على حاله، وأن يُحرم الموظفون من مرتباتهم، ويتحكَّم الأميركي في عدد السفن والرحلات التجارية إلى موانئ الحديدة ومطار صنعاء، وتبقى القوات الأجنبية الأميركية والبريطانية والسعودية والإماراتية في المحافظات الجنوبية والشرقية، وتسرح البارجات والقطع الحربية الأميركية وتمرح في مياهنا الإقليمية كما يحلو لواشنطن.
وبالتالي، فإنَّ السلام مجرد كلام عائم لا أساس له على أرض الواقع، كما أن هذه المقاربة أشبه ببارود سينسف كل فرص السلام. وفي مقابل هذه المقاربة، تعتقد صنعاء أن واشنطن هي العقدة، وهي أساس المشكلة، وأن السلام وفقاً لهذه المقاربة الأميركية مرفوض جملةً وتفصيلاً.
لا يبدو أنَّ السعودية قادرة على المناورة خارج المعلب الأميركي وتجاوز الهامش الأميركي، وإن حاولت في الآونة الأخيرة التمظهر بعكس ذلك، من خلال القمم الثلاث التي عقدتها مع الصين في العاصمة الرياض (قمة سعودية صينية، قمة صينية – خليجية، وقمة صينية – عربية)، إذ إنَّ تلك القمم لا تعدو كونها مناورات تكتيكية، وليست خياراً في التحول شرقاً بما للكلمة للمعنى بعيداً من الغرب، فالسلاح السعودي في غالبيته أميركي، والتدريب أميركي، والمملكة لا تزال تعج بالقواعد الأميركية.
وبالتالي، فإن الرياض، وإن حاولت أن تتظاهر بأنها رقم صعب ولاعب أساسي في المعادلات الإقليمية والدولية، فإنها لا تعدو كونها دولة وظيفية، ولا تملك أي ورقة سوى النفط. وهذه الورقة أيضاً لا يمكن التلاعب بها بعيداً من التوافق بين أعضاء منظمة "أوبك".
أضف إلى ذلك أنَّ هذه الورقة الوحيدة لا تزال تحت رحمة صواريخ اليمن ومسيراته. وبناء عليه، فإن فَكَّر العدوان في التصعيد فسنكون أمام هزة جيوسياسية كبرى في سوق النفط العالمية، وستكون الرياض وواشنطن وحلفاؤهم الغربيون أول من سيدفع الثمن، وسيكون ذلك مغامرة أو حماقة إستراتيجية، إن جاز التعبير، في ظل اضطرابات وشيكة في سوق النفط مع تصاعد المواجهة بين موسكو والغرب.