الأردن والمعركة الوجودية… لا دولة فلسطينية بين النهر والبحر
محمد صادق الحسيني
لا شك في أنّ المشهد، الذي تعيشه الأردن منذ أسابيع، ليس وليد الساعة ولا هو ناجم عن رفع أسعار المحروقات ولا غيرها من المواد الاستهلاكية في البلاد.
كما أنّ هذا المشهد المضطرب، والخطير، ليس ناتجاً عن سياسات الحكومة الحالية، أو التي سبقتها، وإنما هو نتاج لعملية تراكمية من المشاكل والأزمات تعود في تاريخها الى سنة ١٩٤٨، أيّ سنة إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
آنذاك، حاولت العصابات الصهيونية المسلحة، المدعومة من قوات الاحتلال البريطاني في فلسطين، تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه، لإحلال المستوطنين اليهود مكانه، وذلك من خلال المجازر الجماعية، التي ارتكبتها تلك العصابات، بدءاً من مجزرة الطنطورة/ قضاء يافا/ الى مجزرة دير ياسين/ قضاء القدس/ وعشرات من المجازر الأخرى، وما تبعها من عمليات تطهير عرقي، قادها متزعّمو تلك العصابات، من أمثال ديفيد بن غوريون ومناحيم بيغن وإسحق شامير وموشي دايان وإسحق رابين وأرئيل شارون وغيرهم.
إلا أنّ صمود الشعب الفلسطيني، في جزء من فلسطين، ايّ في الضفة الغربية، اضطر هؤلاء الغزاة الصهاينة الى البحث عن وسائل لاستكمال مشروعهم الاستيطاني في فلسطين، فكانت مجازرهم التالية، بداية خمسينيات القرن الماضي، كمجزرة قِبيَّهْ، الواقعة غرب رام الله، وكانت تخضع للإدارة الأردنية آنذاك، التي ارتكبتها الوحدة ١٠١ في جيش الاحتلال الصهيوني، بقيادة الجنرال شارون، وذلك بتاريخ ١٤/١٠/١٩٥٣، التي تبعتها مجازر عدة أخرى، بحقّ العديد من سكان القرى الأمامية (ما يُسمّى حالياً خطوط التماس… بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة سنة ١٩٤٨)، وصولاً الى احتلال الضفة الغربية كاملة، خلال حرب سنة ١٩٦٧، التي أدّت الى احتلال الأرض الفلسطينية بأكملها، دون أن تستطيع قوات الاحتلال اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه فلسطين.
وهو ما دفع قيادة الكيان الصهيوني، آنذاك، إلى البحث عن وسائل جديدة للتخلص من شعب فلسطين، لإتاحة المجال لمزيد من الهجرة الصهيونية واستيطان أرض فلسطين وتهويدها.
حيث أعلنت سلطات الاحتلال، في شهر تموز ١٩٦٧ عن مخطط جديد أطلقت عليه اسم: «خطة يِغال آلون»، الذي كان قائداً لعصابة البالماخ الصهيونية المسلحة، قبل قيام الكيان الصهيوني، ثم تقلد عدة مناصب عسكرية وسياسية وحزبية، الى أن أصبح وزيراً للعمل أواسط ستينيات القرن الماضي.
نصت الخطة، التي قدّمها آلون الى مجلس الوزراء الإسرائيلي، على ما يلي:
أولاً: إعادة المناطق «المكتظة بالسكان» (في الضفة الغربية) الى الأردن.
ثانياً: ضمّ وسط الضفة الغربية، ايّ مناطق القدس وبيت لحم، للكيان الصهيوني وكذلك منطقة الأغوار الفلسطينية، ونقل تبعية السكان، الى الأردن (سكان بدون حقوق سياسية في فلسطين).
ثالثاً: إقامة دولة درزية في الجولان السوري المحتلّ، وهذا ما تعمل على تحقيقه سلطات الكيان والمتواطئين العرب حالياً.
وقد صادقت الحكومة الصهيونية على ضمّ الجولان بعد سنة من وفاة آلون، اذ تمّت المصادقة على الضمّ سنة ١٩٨١.
رابعاً: إعادة سيناء الى مصر.
وقد رفض الملك حسين بن طلال هذه الخطة في حينه.
إلا أنّ سنوات ما بعد حرب سنة ١٩٦٧ والتطورات التي أعقبت ذلك في العالم العربي، من اشتداد عود الفدائيين الفلسطينيين وبروز دور منظمة التحرير الفلسطينية، وكلها عوامل شجعت الملك الأردني على رفض الخطة.
لكن المملكة الأردنية قد بدأت تشهد سلسلة من التطورات الداخلية، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، اعتباراً من سنة ١٩٧٤ قبيل بدء الحرب الأهلية في لبنان، التي دفعت بالكثير من رؤوس الأموال في لبنان للهجرة الى الأردن. كما تبع هذه المرحلة مرحلة هجرة رؤوس أموال جديدة، وهـذه المرّة من العراق، بُعيد بدء الحرب العراقية ضدّ إيران سنة ١٩٨٠.
وكانت هذه العوامل، وما نتج عنها من تفاعلات وتداعيات سياسية واقتصادية، داخل الأردن نفسه، هي السبب الرئيسي في نشأة طبقة/ فئة من الكومبرادور، التجار الريعيين المرتبطين بالمشاريع السياسية الخارجية، بدأت تسيطر على مفاصل الحكم في الأردن بشكل تدريجي، الى أن تمكّنت من السيطرة على مفاصل الدولة، بدعم أجنبي طبعاً، الأمر الذي جعل خضوع الدوله الأردنية لمشاريع الهيمنة، التي تنفذها المؤسسات المالية الدولية لصالح الامبريالية الاميركية أمراً واقعاً انعكس على حياة المواطن الأردني، في صورة غلاء للأسعار وتضخم لا يُطاق وارتفاع في نسب البطالة ( نتيجة «إصلاحات» البنك الدولي).
وهي السياسات التي أوصلت الأزمات المعيشية في الأردن إلى مستويات الأزمات في الدول العربية المجاورة، كالعراق وسورية ولبنان، دون ان تكون الأردن خاضعة لا لعقوبات ولا لحصار ولا لمحاصرة طائفية، وإنما لمعادلة اقتصادية مالية، من هندسة الدوائر المالية الصهيونية العالمية، بأهداف تفكيك المجتمع الأردني، بعد دفعه الى حالة مستعصية من الأزمات وما تنتجه من حالات فوضى سياسية وأمنية، تقود الى انهيار الدولة الأردنيه وتفككها، ما يفتح الطريق الى تغييرات سكانية وسياسية، خاصة إذا ما نظرنا الى مثل احتمال كهذا، في ظلّ ما يجري من تحوّلات سياسية في الكيان الصهيوني مؤخراً، وهي المتغيّرات التي جاءت بعتاة التطرف الديني والاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وما يرافق ذلك من حملات تدعو لطرد الفلسطينيين الى الأردن وإقامة دولة فلسطينية هناك، بحجة حلّ مشكلة حقّ الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة خاصة بهم، حسب القرارات الدولية.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ منظمة التحرير الفلسطينية، بزعامة الرئيس ياسر عرفات، كانت قد رفضت مشروعاً شبيهاً لمشروع إيغال آلون، عرض عليها عبر وسطاء دوليين في شهر آب ١٩٨٨ يقضي بما يلي:
1 ـ انسحاب إسرائيلي من مناطق ذات كثافة سكانيه فلسطينية.
2 ـ تبادل أراضٍ يتمّ بموجبه إلحاق بعض مناطق المثلث الفلسطيني المحتلّ بمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، مقابل بقاء المستوطنات اليهودية في الضفة تحت ما يُسمّى «السيادة الاسرائيلية».
3 ـ يتمّ إلحاق المواطنين الفلسطينيين سياسياً بالأردن، بحيث يمارسون حقهم السياسي في الانتخابات وغيرها في الأردن وليس في مناطق سكنهم في وطنهم فلسطين.
4 ـ إقامة منطقة أمنية «إسرائيلية» في الأغوار الفلسطينية (عملياً ضمّ لمنطقة الأغوار المحاذية للأردن من الشرق).
كما لا بدّ من التنويه الى سياسات كافة الحكومات «الاسرائيلية» المتعاقبة، منذ أواخر الثمانينيات، مروراً بمرحلة اتفاقيات اوسلو ووادي عربة، قد عملت كلّ ما في وسعها لمنع إقامة دولة فلسطينية للشعب الفلسطيني في وطنه، ودأبت على تقويض الأمن والاستقرار في الأردن، عبر الكثير من الوسائل والأدوات، بهدف إحداث موجات من الفوضى في فلسطين والأردن، على حدّ سواء، كي تخلق الظروف الأكثر ملاءمة لتهجير الشعب الفلسطيني من وطنه، تحقيقاً لحلم غلاة آباء الاستيطان الصهاينة، في استبدال الشعب الفلسطيني الأصلي، بمستوطنين مستجلبين من كلّ أصقاع الأرض ولا علاقة لهم بأرض فلسطين.
لذلك فإنّ من الأهمية بمكان تشخيص الأزمة الحالية، في الأردن، بطريقة علمية صحيحة ومسؤولة، كي تتمّ معالجة الأزمات المعيشية على نحو عاجل، ينزع فتيل التوتر والخطر المحدق بالدولة الأردنية، والانتقال الفوري، وفي أقصر الآجال الى معالجة اقتصادية سياسية جذرية، لأسباب المشاكل المتوالية، التي تعصف بالبلاد.
ايّ انّ ما يجب عمله هو فعل وطني سياسي استراتيجي، يتجاوز بكثير حدود الأزمات الاقتصادية والمعيشية وهموم الناس اليومية. وهي بالطبع هموم محقة، ويجب حملها على أكتاف أهل الحكم قبل كلّ شيء، كخطة أولى على طريق الحلّ الجذري.
قد يكون وضع الإصبع على الجرح والضغط عليه، لهدف تنظيفه مؤلماً لكنه غاية في الضرورة، حيث إنّ أسلوب الطبطبة وتبويس اللحى لم يعد مجدياً بعد وصول السكين الى الرقبة.
انّ الحلّ يكمن في سلوك نهج اقتصادي، يعتمد التنمية المستدامة، وتوطين المشاريع الصناعية المنتجة، ونهج سياسي ينطلق من مصالح الأردن الوطنية العربية وليس من مصالح كلّ ما هبّ ودبّ، من محلي وأجنبي.
لا بدّ من انتهاج سياسة وطنية مستقلة، تكون ركيزتها القوى الوطنيه الأردنية، المدعومة من القوى الوطنية العربية والإقليمية الشقيقة والصديقة، وإلا فإنّ المستقبل سيكون أكثر سواداً من الحاضر.
وهذا ما لا يتمناه أحد، لا للأردن ولا لأيّ من الدول العربية، التي تعاني من الأزمات والاضطرابات المموّلة والمُسيّرة عن بعد، من واشنطن وتل أبيب.
بعدنا طيّبين قولوا الله…