المنظومة الحاكمة تحاور نفسها: الغاية إنقاذ لبنان من إفلاسها السياسي!
د. عصام نعمان
بعد تسع جلسات تخللتها مسرحيات هزلية مضحكة ومبكية، لم يجد رئيس مجلس النواب نبيه بري حلاًّ للعجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية إلاّ بدعوة النواب الى جلسة عاشرة ليجرّب النواب أنفسهم مرّة جديدة في معالجة العجز الفاضح، حتى إذا أخفقوا يُصار الى تحويل الجلسة ندوةً للحوار من أجل إيجاد مخرج للبلاد من حال الفراغ الرئاسي.
سبق للرئيس بري أن دعا الى طاولة للحوار الوطني من أجل الغاية نفسها، لكن معظم أركان المنظومة الحاكمة ومحازبيهم رفضوا دعوته بإباء وشمم. لماذا؟ ربما لأنهم يعلمون بأنّ ما تعانيه البلاد والعباد ليس الفراغ الرئاسي فحسب بل الفراغ السياسي ايضاً، وأنّ هذا الفراغ متعدّد الميادين والمستويات والأبعاد والقيادات، وأنّ المنظومة الحاكمة مسؤولة بالدرجة الأولى عما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردّية من انهيارات وأزمات وكوارث، فهل يُرتجى خير من حوارٍ تجريه المنظومة الحاكمة المفلسة مع نفسها؟
ردُ فعلٍ لافت صدر عن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في أعقاب انعقاد مجلس الوزراء يوم الاثنين الماضي. باسيل اعتبر انعقاده في حال حكومة مستقيلة مخالفاً لأحكام الدستور.
باسيل حليف لحزب الله أحياناً، ناقد له أحياناً أخرى. ساءه أنّ الحزب لم يجاره في مقاطعة دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، فأطلق في وجهه انتقادات كادت تهدّد بقاء التحالف بينهما. ولعلّ أكثر ما لفت المراقبين دعوة باسيل الى “إقرار اللامركزية الإدارية الموسّعة”، وتهديده الضمني بما معناه البدء بتنفيذها على الأرض. ذلك أنّ دعوته في هذا الظرف المشحون بالعصبيات الطائفية والمشاحنات السياسية ذكّرت الناس، مواطنين ومسؤولين، بدعوته القديمة ـ الجديدة الى استعادة “حقوق المسيحيين”، كما ذكّرتهم بدعوات أخرى الى اعتماد الفدرالية وغيرها من صيغ اللامركزية السياسية. فأيّ لامركزية إدارية موسّعة يريدها باسيل؟
اذا كان يبتغي اللامركزية الإدارية الموسّعة كما وردت في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف سنة 1989، فإنّ نصّها جاء حرفياً على النحو الآتي:
“اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلسٍ لكلّ قضاء يرئسه القائمقام،
تّأميناً للمشاركة المحلية”.
هل يبتغي باسيل هذا النمط من اللامركزية الموسّعة الذي لا يبتعد كثيراً عن قانون البلديات المعمول به حالياً، أم يبتغي اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة التي دعا اليها في أحد المؤتمرات التي نظمها التيار الوطني الحر قبل سنتين؟
ثم، كيف يُصار الى اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة، سواء وفق النصّ الوارد في وثيقة الوفاق الوطني او في غيره من الوثائق والمشاريع الإصلاحية؟
هل يكون اعتمادها من خلال الحوار؟ وأين يجري الحوار؟ ومَن يكون أطرافه؟ وهل يجري في مجلس النواب بكلّ أعضائه كما تُوحي دعوة الرئيس بري الأخيرة أم من خلال هيئة مصغّرة يُصار الى تأليفها من بين أعضائه؟
لعلّ السؤال الأهمّ هو: هل يمكن، بل هل يجوز، أن يقوم مجلس النواب الحالي او هيئة أخرى يؤلفها أهل السلطة في ظلّ نظام المحاصصة الطوائفي القائم بوضع تصوّرٍ لمفهوم اللامركزية الإدارية الموسّعة وبالتالي مشروع قانون لإقرارها وتنفيذها بعد مرور أكثر من 33 سنة على اعتمادها في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وامتناع كلّ مجالس النواب ومجالس الوزراء المتعاقبة عن اعتمادها وتنفيذها طيلة هذه الحقبة؟
في موازاة كلّ الأسئلة سالفة الذكر، وربما بالدرجة نفسها من الأهمية، سؤال مركزي: هل يُعقل تحقيق أيّ إصلاح بحوارٍ تجريه أطراف المنظومة الحاكمة مع نفسها وهي المسؤولة عمّا ترتع فيه البلاد من فراغٍ سياسي وفراغ رئاسي وفسادٍ وانهيار اقتصادي واجتماعي وكوارث وأزمات؟
مع تأييدي المطلق لمبدأ الحوار الوطني، أرى وغيري كثيرون أن لا سبيل لحوارٍ جدّي ومجدٍّ يجريه أطراف المنظومة الحاكمة مع أنفسهم أو من خلال أشخاص من طينتهم يعيّنوهم لترجمة أفكارهم وحماية مصالحهم وبالتالي لتطويل أمد بقائهم في السلطة.
كما لا يصحّ أن يتولىّ مجلس النواب الحالي الاضطلاع بمهمة الحوار الوطني الجدّي والمجدي وقد عجز أعضاؤه عن ملء الفراغ الرئاسي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد تسع جلسات متوالية من المسرحيات الهزلية.
حتى لو نجح مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد، فإنه يبقى عاجزاً عن الاضطلاع بمهمة تاريخية كبرى هي إخراج لبنان من أزمته السياسية المزمنة على جميع المستويات بحوارٍ وطني جامع وهادف الى وضعه على مسار الانتقال سلمياً وتدريجياً وديمقراطياً، ولو طال الزمن، من نظام المحاصصة الطوائفي الى دولة المواطنة المدنية.
إنّ حواراً وطنياً جامعاً بهذه الأهمية التاريخية لا يجوز أن يتولاها إلاّ اللبنانيون أنفسهم. ولعلّ السبيل الأسلم والآمن الى تحقيقها يكون بتحالف القوى الوطنية الحيّة، بكلّ تلاوينها الفكرية والسياسية، بغية انتخاب مجلس تأسيسي من قِبل الشعب على مستوى الجمهورية كلها باستقلالٍ عن أجهزة السلطة، مؤلفٍ من مئة عضو، بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين دونما توزيع مذهبي، وعلى أساس صوت واحد لكلّ ناخبٍ او ناخبة بلغا سن الثامنة عشرة، ليتولّى أعضاؤه الحوار الوطني الهادف الى وضع الأسس والقوانين المتعلّقة بالإصلاحات التي تضمّنتها وثيقة الوفاق الوطني في الطائف والتي بات معظمها مواد منصوص عليها في الدستور منذ سنة 1990، على أن تُعطى مسألة اللامركزية الإدارية الموسّعة أولويةً راجحة في الحوار والإقرار.
آن أوان التخلّي عن المخادعة والمخاتلة وذلك بالمبادرة بلا إبطاء الى السير على طريق الإصلاح الجذري من أجل اللبنانيين جميعاً وبقرارٍ وممارسةٍ من اللبنانيين أنفسهم.