أوكرانيا.. حرب استنزاف مستمرة بين روسيا والغرب
سماهر الخطيب
تكثر التحليلات والدراسات التي تبحث في تطورات العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس والتي تحاول فهم العقلية البوتينية في مجريات هذه العملية وهل ستكون عملية استنزافية تستنزف بتبعاتها الإقتصادات العالمية وسط تساؤلات حول ما يجري خلف أبواب الكرملين من سياسات وما ينعكس عليه من استراتيجيات البيتين الأبيض والأوروبي للضغط عليه بالذراع الأوكراني الذي بات ذراعاً ناتوياً في الفضاء الروسي..
كنا قد فندنا في مقالات سابقة أسباب العملية الروسية الخاصة والتي جاءت أولاً لحماية أهالي دونباس من محاولات الإبادة التي كانت تقوم بها السلطات “النازية” في أوكرانيا طيلة ثماني سنوات وثانياً رداً على التهديدات الأمنية التي تعرضت لها روسيا الإتحادية بدءاً من تهديد أمنها القومي وصولاً لتهديد أمنها الإقتصادي والغذائي وكذلك تهديد الأمن الطاقوي وأمنها الديني والثقافي ليس ببعيد عن ما تعرضت له من تهديدات في محاولة لطمس الثقافة الروسية البلاشفية ومحاولة إغراق المجتمع الروسي كغيره من المجتمعات التي حاول الغرب إغراقها بأفكارهم الليبرالية القائمة على الفردية وتشجيع المثلية وطمس القيم والهوية المجتمعية للمجتمعات المغايرة للهوية الغربية الفردية..
واليوم وبعد أشهر من هذه العملية التي لعبت على عامل الوقت فكان النفس الروسي فيها طويلاً وما يزال صامداً أمام الدعم الغربي الناتوي المالي والعسكري لأوكرانيا ضدّ روسيا الاتحادية في محاولة لإنهاكها ليبدو أنّ السحر ينقلب على الساحر والنفس الروسي الطويل قابله ضيق تنفس غربي في مواجهة شتاء شديد البرودة تتجمّد معه الخيارات الغربية وتتصدّع الوحدة الغربية الناتوية في مواجهة القوّة الروسية التي أعيت الغرب ببرودة أعصابها وبرودة ردّها حتى با الشتاء روسياً بطقسه وسياساته وأصبح القطب المتجمّد الشمالي إمتداداً للسياسة الروسية المتجمّدة وباتت إنعكاساً له أمام كل التحليلات والدراسات التي تسعى لفهم العقلية البوتينية المليئة بالمفاجآت فباتت العقارب الأوكرانية ومن خلفها الغربية تضبط على توقيت العواصف الروسية غير المرئية..
وفي محاولة أميركية لمواصلة حربها مع روسيا بالذراع الأوكرانية طلب الرئيس الأميركي جو بايدن في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، من الكونغرس تخصيص 37.7 مليار دولار أخرى لأوكرانيا، وقال الرئيس الديمقراطي للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، المحافظ الجديد جريجوري ميكس من نيويورك ، إنه “من الضروري التأكد من حصولنا على كل شيء لهم (للأوكران)… حتى يكون لديهم الأسلحة لمواصلة الزخم المتحرك (ضد الروس) خلال الشتاء”.
ووفقاً لتقرير وكالة الأسوشييتد برس، “تضمنت المساعدات المقدمة لأوكرانيا بالفعل عشرات الآلاف من الصواريخ وصواريخ الدفاع الجوي والأنظمة المضادة للدروع، وأكثر من 84 مليون طلقة من الذخيرة، إضافة إلى الطائرات بدون طيار والدبابات والشاحنات والرادارات والدروع الواقية للبدن ومعدات أخرى “.
وهنا ربما علينا توقع زيادة عدد ضربات الطائرات بدون طيّار وكذلك الهجمات الإرهابية الأوكرانية في العمق الروسي ليتكرر سيناريو تفجير جسر القرم ونورد ستريم بعيد هذه المساعدات ورفع سقف التصريحات الأميركية والناتوية المناهضة لروسيا..
كما بلغ إجمالي الحسابات التي نشرها معهد كيل للاقتصاد العالمي “تعقب دعم أوكرانيا” في 11 تشرين الأول (أكتوبر) 52 مليار دولار من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا هذا العام، واعتباراً من ذلك الوقت وحتى الآن، تم تخصيص حوالي 60 مليار دولار، وإذا تم منح الطلب الحالي الذي تقدّم به بايدن والذي يبلغ 37.7 مليار دولار ويبدو أنّ ذلك شبه مؤكد باعتبار أنّ الكونغرس الأميركي الآن فعلياً 100 ٪ من المحافظين الجدد الذين لا يرفضون أبداً فرصة إنفاق المزيد من الأموال على الأسلحة والحرب ما يعني أنّ أميركا تكون قد أنفقت حدود 100 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا على هزيمة روسيا في ساحات القتال الأوكرانية…
بالتالي فإنّ من يقول بفشل العملية الروسية وبضعف القرار الروسي في أوكرانيا فعليه قراءة الأرقام وهذا غيض من فيض الدعم الذي تتلقاه أوكرانيا من الغرب حتى باتت شراهة زيلينسكي خارج السيطرة وباتت معظم الدول الغربية في حرج أمام شعوبها لإرضاء الشهية “النازية” على حساب الحاجة الطاقوية لشعوبها..
أما روسيا التي أعيت المحللين لقراءة تكتيكاتها العسكرية والتي وضعت بتلك التكتيكات العسكرية فصلاً جديداً من “فن الحرب” الذي وضعه صن تزو قبل مئات الأعوام لتصبح الإستراتيجية الروسية العسكرية استراتيجية هجينة ومتطورة تداخلت فيها الوسائل والأدوات فبينما كان الغرب يستخدم الاقتصاد لخدمة الحرب كان أحد الأسلحة الروسية المستخدة للمواجهة باستخدامها لسلاح موجه ضدّها فبات الغرب أمام أزمة عالمية طالت قطاعاته كافة وكأنما فتح بيديه صندوق باندورا ولم يعد قادراً على كبح التضخم الذي طال إقتصاداته..
وفي مقارنة الإنفاق نجد أن روسيا عادة ما تنفق حوالي 60 مليار دولار سنوياً على جيشها، في حين تنفق أميركا أكثر من 1.2 تريليون دولار سنوياً وبعضها ينفق في الإدارات الفيدرالية غير العسكرية، مثل وزارة الخزانة، وذلك للاختباء من الجمهور تقريباً، حيث تفيد بعض التقارير الإعلامية أنّ 400 مليار دولار سنوياً من الإنفاق العسكري الأميركي الذي لم يتم دفعه من “وزارة الدفاع”. لذلك يمكننا القول بأنّ إنفاق الولايات المتحدة حوالي 20 ضعف ما تنفقه روسيا على الدفاع في العام العادي.. وهي بالضبط 20 إلى 1 ميزة الإنفاق العسكري.
ويبدو أنّ الإستراتيجية الرئيسية لإدارة بايدن وفق معدّل الإنفاق الهائل في أوكرانيا هي هزيمة روسيا في ساحات القتال الأوكرانية، وبالتالي “الإطاحة” بفلاديمير بوتين وهي الخطوة الأولى لواشنطن لغزو روسيا وجعلها جزءاً آخر من الإمبراطورية الأميركية وهو بالضبط ما كان متنبهاً له الرئيس الروسي حين وجد أنّه أمام خيارين إما تقسيم روسيا أو تقسيم أوكرانيا فأراد المواجهة حتى النهاية وعدم التراجع إذ لا معنى لوجود العالم بدون روسيا وفق ما أعلن بوتين في إحدى تصريحاته الساخنة إنما بخطط وعقلية روسية بعيدة عن التكهنات الغربية..
ليبدو أن الخطة الروسية لمواجهة الزخم الأميركي ضدّها تقوم على استثمار الهفوات الغربية والفساد الأميركي إذ لا يمكن لأي دولة منافسة أميركا في فئة فساد إنفاقها العسكري والذي يصل إلى 1.2 تريليون دولار أميركي + الإنفاق العسكري السنوي! وهذا، على سبيل المثال، هو السبب في أن “مكتب المحاسبة يكتشف أن الفشل هو المعيار في الطائرات العسكرية الأميركية”.
كما أنّ عامل الوقت بات يحكم الشعوب الأوروبية والأميركية في مواجهة شتاء قارس وجشع أميركي استحوذ على العقلية الغربية حتى باتت ريبورتات بتشغيل الرغبات الأميركية خاصة وسط توقعات مجلة “ذا إيكونوميست” بأن يموت حوالي 147 ألف شخص في أوروبا خلال فصل الشتاء بسبب ارتفاع أسعار الطاقة أي بالبرد، ورغم أنه مجرد توقع إنما يؤثر في العقلية الأوروبية لإثارة شعوبها ضدّ أنظمتهم المنفذة للأجندة الأميركية حتى باتت كمن يقدم على الإنتحار بملئ إرادته وهنا نتحدث عن أشهر من الصقيع لا يحتاج فيها بوتين لتحريك قواته لتدمير أعدائه بل سيكون ذلك وفق الطبيعة..
وهنا يمكننا القول بأنّ الغرب قد هُزم بالفعل فهو في بداية الطريق إلى الهاوية إذا ما استمر بتنفيذ الأجندة الأميركية بسبب الأزمة الإقتصادية التي بات يعاني منها نتيجة العقوبات الأحادية المفروضة على روسيا والأزمة الطاقوية والغذائية الناتجة عن تلك العقوبات وفي هذه الفترة الصعبة على نفسه يستنزف موارده في الحرب ضدّ روسيا ما يجعل احتمال كسب حرب ضد الصين أمر مستحيل..
أي يمكننا القول بأن الغرب قد خسر فعلياً إنما نتائج هزيمته ستظهر لاحقاً وستكون عملية تراجعه بطيئة إنما مميتة كتلف الخلايا الواحدة تلو الأخرى ولو كان لسنوات وليس أشهر ورغم صعوبة تحديد النقطة التي يمكن تسميتها انتصار روسي إنما يمكننا ملاحظة الاقتصاد الروسي الذي لم ينهار في الربيع ورغم شدة وحدّة العقوبات ضد روسيا فهذه النقطة مثلاً يمكننا تسميتها انتصار روسي وفي الانسحاب من خيرسون البعض سماه هزيمة ويمكننا تسميته إعادة تموضع لتحصيل انتصار في نيكولايف وأوديسا على سبيل المثال، وبالتالي الحصول على كامل الأراضي الملاصقة للبحر الأسود وآزوف وعزل أوكرانيا تماماً عن المنافذ البحرية..
ناهيك عن وضع الجيش الأوكراني بين فكي كماشة الجيش الروسي وعدم حصوله على الإمدادات العسكرية خلال فصل الشتاء يجعل من خيرسون مقبرة “النازية” كما أنّ قيام زيلينسكي بتجميد ملايين من الأوكرانيين سيجعلهم يتذكرون بأنه يهودي وربما ستبدأ حينها المذابح ضدّ اليهود مرة أخرى في أوكرانيا لتكون مقبرة “اليهودية” وهو ما جنت على نفسها “براقش” حين قررت مواجهة “القيصر” الروسي متناسية أنّ للإمبراطورية كبوة ويقظات عدة..
ورغم أنه من غير المرجّح توقيع معاهدة سلام يتم فيها تقسيم أوكرانيا وهو ما ترغب به كلاً من “بولندا والمجر ورومانيا” للإستيلاء على جزء من الأراضي الأوكرانية التي كانوا يسيطرون عليها في الماضي إلا أنه على الأرجح سيكون هناك هدنة والتي قد تتحول إلى حرب جديدة بعد فترة ليست ببعيدة أو تستمر الحرب وتمتد لتشمل دول البلطيق وكل ما سيحدث في هذه الحرب سيحتوي على مفاجآت كبيرة، وسيعتمد الكثير على مسار الأزمة الإقتصادية والمواجهة الصينية – الأميركية وهنا قد تكون العولمة السلاح القاتل لليبرالية والذي كان سابقاً سلاحها الفعّال وستكون الحرب العالمية الثالثة حرباً هجينة تتداخل فيها العوامل الإيديولوجية مع تلك الأصولية الدينية والقومية وحتى الإقتصادية والطاقوية وسيكون المنتصر صاحب الأحقية بوضع شكل النظام وقواعده الدولية..