في الحرب الاقتصادية: أميركا ربة المنزل.. وأوروبا "الشغالة"
عبير بسّام
في الثامن من الشهر الجاري هددت أوروبا واشنطن باللجوء لرفع دعوى على الولايات المتحدة الأميركية لدى منظمة التجارة العالمية. الحدث ليس بالجديد فقد فعلها الاتحاد الأوروبي في العام 2003. يومها فرضت الولايات المتحدة "رسوم مكافحة الإغراق" على المصدرين الأوروبيين وقامت هي بإغراق السوق الأوروبية بمنتجاتها. وقتذاك ربحت أوروبا الدعوى، بعد أن صدر الحكم من محكمة المنظمة بفرض عقوبات مادية على الولايات المتحدة. واليوم يتكرر هذا التهديد باللجوء للمحكمة في وقت تعاني فيه كل من اوروبا وأميركا من التضخم المالي وارتفاع أسعار السلع وازدياد الديون على الدولة الأميركية. فما الذي يحدث؟
تجددت حرب التجارة الجمركية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ العام 2020 مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص قضايا شركات إيرباص وغيرها، واستمرت مع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للسلطة، والذي حاول خلال زيارته لأوروبا في حزيران/ يونيو 2021 دفع الأوروبيين للتنازل عن براءات اختراع متعددة، ومنها براءة اختراع لقاح فايروس كورونا.
وبحسب صحيفة "بوليتكو" وبعد إقرار "قانون خفض التضخم" في امريكا، في صيف العام 2021 ضمن سياسة مكافحة تغير المناخ، وقرار أمريكا الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من أجل انتاج الطاقة الكهربائية، قامت واشنطن بفرض "ضرائب كبيرة" على السيارات الأوروبية التي تعمل بالطاقة والشمسية والمنتجات الأوروبية الأخرى الصديقة للمناخ ـ ما يتناقض وقوانين منظمة التجارة، وذلك دعماً للصناعة وعجلة الإنتاج الأميركي واستثماراته في المجال ذاته، ولاحقاً لإغراق السوق الأوروبية بمنتجاتها.
ومنذ بداية الصراع الأميركي الروسي في أوكرانيا، بدأت الشركات الأوروبية ترزح تحت عبء ازدياد أسعار الطاقة بسبب المنافسة الأميركية وضعف التصدير بسبب الإجراءات الجمركية الأميركية، وبدأ يلوح في الأفق خطر خسارة العديد من الناس لوظائفهم. وبحسب "بوليتكو" أيضًا، فقد حذر كل من وزير الاقتصاد والمال الفرنسي برونو لومير، الذي استخدم تعبير الحرب الاقتصادية بين أوروبا وأميركا، ووزير المال الألماني كريستيان ليندنر، من تداعيات ما يحدث ووجوب "الحوار" مع واشنطن. وصرح الوزير الفرنسي بأن فرنسا "تنتظر من المفوضية الأوروبية اقتراحات صارمة ومناسبة". وخلال مقابلة تلفزيونية هدد المفوض الأوروبي تيبري بروتون باتخاذ التدابير الانتقامية ردّاً على تجاهل واشنطن لانتقادات الاتحاد الأوروبي، وقصد بالتدابير: اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية، اذ تقوم الولايات المتحدة برشوة الشركات العالمية، وبخاصة العابرة للقارات منها للعمل فوق أراضيها عبر تقديم مساعدات مالية تفوق ما اتفقت عليه مع اوروبا، والتي لا يمكن للأخيرة منافستها، مما سيتسبب بإغلاق مكاتبها في اوروبا وتسريح موظفيها. ونحن هنا نتحدث عن البطالة التي ستنتشر ما بين الطبقة الوسطى العليا.
إن الضغط الاميركي الذي أدى إلى إلغاء استراليا لصفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها باتفاقية مع اميركا وبريطانيا كان خطوة يحضر لها بالتأكيد من أجل إحكام السيطرة على اوروبا ومن أجل حماية مصالحها الداخلية على حساب القارة العجوز المعتمدة على الطاقة الروسية في صناعتها.
إن ما أقدم عليه بايدن من طريقة تعامل مع أوروبا كان أسوأ مما قام به ترامب عندما انسحب من منظمة التجارة العالمية. ردت أوروبا على قرارات بايدن بفرض ضرائب كبرى على شركات صناعة الصلب والأسمدة وغيرها مما يتسبب بانبعاثات كربونية تضر بالمناخ، كما رفضت المانيا يومها فرض العقوبات على نورد ستريم 2، الخط الروسي الذي يزود أوروبا بالغاز، فكان الرد الأميركي بالدعوة إلى ضم أوكرانيا للناتو وتصعيد المواقف ما بين أوروبا وروسيا. لقد وقعت أوروبا بالفخ، وهي ترزح اليوم تحت وطأة التضخم المالي الكبير بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا والتي باتت نتائجها فوق طاقة الاحتمال.
الأزمة ما بين الحليفين الغربيين أوروبا وأميركا قديمة، ويبدو أن الأخيرة لم تلتفت ابداً إلى المخاطر التي تسببها سياساتها الاقتصادية من أضرار في اوروبا. بل ما فعلته الولايات المتحدة هو خنق اوروبا أكثر فأكثر من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على المنتجات النفطية والغذائية الروسية. في العقوبات على الأولى يفهم منها محاولة أميركا محاصرة الاقتصاد الروسي، وفهم فيما بعد، أن السبب وراء ذلك هو دفع اوروبا لشراء النفط الأميركي الغالي الثمن. ولكن في العقوبات على المنتجات الغذائية الروسية كان المطلوب دفع اوروبا لاستيراد منتجاتها، التي يقاطعها الشعب في أوروبا ومنذ عشرات السنوات بسبب احتوائها على منتجات معدلة جينياً.
كان للحصار الاميركي على روسيا وجه آخر ابتدأ مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في بداية العام 2020، اذ تأخرت منذ تلك المرحلة مفاوضات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، خاصة بعد تنفيذ شروط الخروج من الاتحاد، "بريكست"، في عهد رئيس الوزراء البريطاني بورس جونسون. ولكن دون تنفيذ الاتفاق صعوبات كثيرة، وأهمها "بروتوكول ايرلندا الشمالية"، وهو الاتفاق الذي يلزم بريطانيا بتفتيش البضائع على حدودها مع إيرلندا الشمالية، وهو ما تعتبره ايرلندا الشمالية اتفاقاً مهيناً لها، وعبر الأطلسي، ترفض أمريكا إقامة أي علاقات تجارية مع بريطانيا ما لم توقف البروتوكول لأن أمريكا تعتبر نفسها راعية اتفاق "الجمعة العظيمة"، أو اتفاقية "حماية بلفاست"، وهو الاتفاق الذي أنهى العنف في ايرلندا الشمالية في العام 1998.
وتضغط أمريكا على بريطانيا من خلال الاتفاق للتملص من جميع التزاماتها مع الاتحاد الأوروبي، في حين أن دول الاتحاد تصر على هذا البند منعاً لدخول أية بضائع أمريكية إلى الاتحاد على أنها من إيرلندا الجنوبية التي ما تزال ضمن دول الاتحاد، والتي ستكون معفية من الضرائب الجمركية. واتفاق الجمعة العظيمة يضع بريطانيا في موقف صعب ما بينها وبين ايرلندا الشمالية مدعومة من الولايات المتحدة من جهة وما بين التزامها ببنود اتفاق الخروج من الاتحاد من جهة أخرى. وهذا بالضبط ما أطاح بحكومة جونسون، التي لم تستطع تحقيق أية مكاسب اقتصادية لبريطانيا وخاصة أنه من وقع اتفاق الخروج؛ والأمر ذاته هو ما أطاح بحكومة ليز تراس وما سيطيح بأية حكومة قادمة، لأن بريطانيا باتت محاصرة ما بين اتفاقية الخروج وما بين حماية اتفاق "الجمعة العظيمة"، خاصة وأن العنف الذي كان سائداً في إيرلندا الشمالية لم تمتد آثاره في لندن فقط بل انتقل في السبعينيات ليهدد الولايات المتحدة بانفجارات ارهابية هددت أمنها واستقرارها، وهو ما افهمته نانسي بلوسي، المتحدثة السابقة باسم الكونغرس، لتراس بالملعقة عندما زارت أمريكا بوصفها وزيرة خارجية بريطانيا في آذار/ مارس من هذا العام، وخرجت بعدها تراس مرشحة مدعومة لرئاسة الوزراء، مع أنها حتى لحظة لقائها ببلوسي كانت ضد الخروج من الاتحاد.
يبدو أن الولايات المتحدة تحاول من خلال فرض قانون "خفض التضخم" الضغط على دول الإتحاد الأوروبي من أجل إلغاء بروتوكول إيرلندا الشمالية، وبالتالي تهريب بضائعها إلى داخل أوروبا، وحماية اتفاق الجمعة العظيمة، وبالتالي تحقيق سياسة رابح ـ رابح عبر فرض ما تريده بما يحقق مصالح أميركا دون الالتفات حتى للوضع الاقتصادي المزري الذي وصلت إليه أوروبا وحليفتها الأبدية بريطانيا، خاصة بعد الدخول في اللعبة الأميركية في أوكرانيا. أي أن ما لم تقدر أمريكا على تحقيقه في روسيا حتى اليوم فعلته بأوروبا، ألا وهو تحويل أوروبا العريقة لتصبح وبشكل نهائي، كما يقال باللغة العامية "شغالة عندها".