التداعيات العالمية للأزمة الأوكرانية…
د. جمال زهران
تمّت الإشارة من قبل إلى عدة أزمات عالمية.. وعدة أزمات إقليمية، وخلصت في الإشارة إليها، وهي التي وقعت خلال الستين عاماً الأخيرة، إلى أنّ التداعيات كانت مجرد توترات وآثاراً سياسية، ولم يكن لها أية انعكاسات اقتصادية. وكلّ ما خلصت إليه هذه الأزمات إلى تأكيد الصراع والتنافس بين القوى الدولية الكبرى بعضها البعض، أو بين القوى الإقليمية في تشابكات دولية، وأيضاً تأكيد موازين القوى، ومحاولة تفادي المواجهة المباشرة.
أما الأزمة الجارية والتي أوشكت على أن تقترب من العام منذ اندلاعها في 24 فبراير/ شباط 2022، رسمياً، وقد بدأت قبل ذلك بشكل غير رسمي، فإنها لم تكتف بالتداعيات السياسية فحسب، بل تمتدّ إلى آثار اقتصادية كبرى، وستعصف مؤكداً بالواقع الدولي والإقليمي، وربما تتغيّر خرائط الجغرافية السياسية التي تسود حالياً في عام 2022، إلى خرائط جديدة على وشك الحدوث، نتيجة الآثار الاقتصادية الناجمة عن تفاقم الأزمة الأوكرانية.
فالأزمة الأوكرانية، في تصاعد مستمرّ، وليست في تراجع أو على وشك الانتهاء. فالإصرار الروسي، على خوض المعركة حتى النهاية، لا يزال كبيراً وحاسماً، ولا يزال الرئيس بوتين يرى أن نتيجة المعركة لا بدّ أن تكون «صفرية»، أيّ إما المكسب الكامل أو المكسب الكامل، بينما الآخرون لا بدّ أن يخسروا كلّ شيء، لتصبح المعركة صفرية. على عكس المعركة اللاصفرية، أيّ أنّ الجميع يخرج من المباراة والمعركة، وقد حقق بعض المكاسب، وبعض الخسائر، وهو ما شهدناه في أغلب المعارك السابقة، على مدار حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945 – 2022)، أي خلال (77) عاماً.
ولذلك لا بدّ من التعامل مع الأزمة الأوكرانية بمنظور مختلف، عما سبق أن نظرنا إليه في أزمات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فالمنظور الاقتصادي، كان غائباً بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن مطروحاً، أية عملة أخرى تسود وتسيطر وتهيمن على الاقتصاد العالمي، سوى الدولار، وخضع العالم لاتفاقية (بريتون وودز) لعام 1944، بمقتضاها يخضع النظام العالمي للعملة الأميركية (الدولار)، نظراً لأنّ أميركا هي الدولة الكبرى التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وقد فازت بالهيمنة الاقتصادية تماماً، فسيطرت بعملتها على العالم كله، ولم تكن هناك عملة أخرى موازية، وأصبحت كلّ العملات، واقتصاديات الدول الأخرى (كبرى أو صغرى)، تقيس كلّ شيء بمرجعية «الدولار»!.
ولذلك، طرحت الولايات المتحدة، مشروع «مارشال»، لإعادة بناء أوروبا، لتأكيد هيمنتها على أوروبا، وهيمنتها على الاقتصاد العالمي، بعملتها «الدولار»، ولتكون أوروبا الغربية محمية أميركية، وواجهة صراع مع «الاتحاد السوفياتي».
كما أنه لم يلاحظ أيّ تحدّ، للعملة الأميركية العالمية «الدولار»، خلال حقبة امتدّت لنحو «خمسين» عاماً. في الوقت نفسه كانت دعاوى الاستقلال والاعتماد على الذات، وتخليق عملات إقليمية يمكنها الوقوف أمام الدولار. ومن أهمّ العملات الدولية التي كانت وليدة توحيد أحد أهمّ الأقاليم المهمة لأميركا، عملة «اليورو»، في إطار توحيد أوروبا، وتأسيس «الاتحاد الأوروبي» الذي بدأ بعدد (12) دولة أوروبية ووصل إلى (28) دولة وخرجت منه بريطانيا، والتي حافظت على استمرار عملتها «الجنيه الاسترليني»، بينما ذابت كلّ العملات الأوروبية وأشهرها: (الفرنك الفرنسي، المارك الألماني، وغيرهما)، في العملة الجديدة المسمّاة بـ «اليورو». ولكن هذه العملة لم تكن منافسة للدولار الأميركي بشكل تنافسي، ولكن نظرت إليه أميركا في إطار التكامل الرأسمالي الغربي، وأنّ هذه العملة ستكون منافسة بشكل محدود، وأيضاً تحت سيطرة الدولار.
ويلاحظ فشل كلّ التجمعات الإقليمية في خلق عملات دولية بديلة. فمجلس التعاون الخليجي، فشل، والجامعة العربية فشلت، والاتحاد الأفريقي، فشل أيضاً، ولم يعد هناك فرصة أمام أيّ إقليم أو قوة دولية تتحدّى الدولار الأميركي. ومن هنا كانت لأميركا السيطرة الاقتصادية على النظام العالمي.
ولا ننسى هنا، أنّ القذافي، دفع حياته ثمناً لإصراره على توليد عملة أفريقية، وهو الذي كان وراء تأسيس الاتحاد الأفريقي في عام 1999. ومن قبل، تمّ اغتيال عبد الناصر عام 1970، الذي كان يصرّ على العملة العربية الموحدة، والآن بعد أزمة أوكرانيا، فإنّ هناك من يروّج إلى إما عزل بوتين أو اغتياله، ومعه الرئيس الصيني، لأنهما حتى الآن، أصبحا ومعهما الهند، وإيران، وكوريا الشمالية، في مواجهة كبيرة مع الدولار والهيمنة الأميركية. ويصرّ هؤلاء، على خلفية الأزمة الأوكرانية، كسر الهيمنة الأميركية، وإحداث نظام جديد منافس لدولار أميركا، وهو نظام «ميرل»، الذي يضمّ التبادل التجاري بعملات الروبل واليوان بصفة أساسية.
وعلى الجانب الآخر، تصرّ أميركا على مواصلة الصراع، بجعل البنك الفيدرالي الأميركي، يرفع الفوائد كلّ شهر تدريجياً، حتى وصلت إلى الزيادة الخامسة بـ (0.75 دولار)، لأهداف اقتصادية تنافسية، لإنقاذ الدولار، ووقف تصاعد التضخم في أميركا، وتفادي التدهور الاقتصادي الأميركي حتى لو تمّ العصف باقتصاديات العالم كله!
إنّ الأزمة الأوكرانية، قد عصفت بالنظام الاقتصادي العالمي، الذي كانت تهيمن عليه أميركا، وبالتالي فإنّ التداعيات تتركز في إعادة بناء النظام الدولي اقتصادياً توازياً مع البناء السياسي التعددي، لنصبح أمام عالم جديد فعلياً، أما ما يترتب عليه من تداعيات أخرى جيو/ استراتيجية، فذلك له حديث مقبل…