kayhan.ir

رمز الخبر: 160048
تأريخ النشر : 2022November11 - 20:39

الاقتصاد الايراني والبروباغندا الكاذبة

أحمد فؤاد

اتفقت كل الأديان والشرائع، سماوية كانت أم من وضع البشر، على التحذير من الكذب والحرص على اجتنابه، والتنديد بالشخص الكاذب ولعنه، إذ إن المجتمعات البشرية أيًا كان حجمها أو زمنها، تعتبر تلك الرذيلة بداية لكل سقوط ومفتتح فعل الخيانة وبذرة إنبات الشك والخداع، وبالتالي فإن الدولة التي تقوم على أكذوبة، مصيرها الهلاك المحتم، مهما بدا من طول عمرها، أو زيفت من مظاهر قوتها.

وعلى قدر جرم الكذب، كفعل ومعنى في حياة الناس، يبقى أحقر منه الأنظمة الكاذبة، التي تزيف الحقائق لمصلحة عدوها، وتتخذ منه دينًا ومنهجًا في الحياة اليومية، لتبرير سقوطها وفشلها ودناءة حكامها ونخبها، وليس شرطًا أن تكون ممارسة هذا النوع من الكذب الجماعي اختراعًا لموقف جديد أو وقائع مزيفة، بل إن انتزاع رقم من سياقه بغرض الإيهام كذب، ورؤية مؤشر واحد وتعميم نتائج قراءته لخلق التأثير المطلوب كذب، وتبني فقرة واحدة من كتاب لتمرير وجهة نظر وإصدار الأحكام بناءً عليها أيضًا كذب ونفاق رخيص، وهذا كله يأتي في سياق متكامل يستهدف التأثير المدمر على الشعوب والمواطنين، في كل بلد ترى نفسها في الخندق المواجه للسيطرة الأميركية، وتعمل على بث روح الانهزام والانكفاء والقناعة بالاستسلام والخنوع، وتثبيت فكرة واحدة مؤداها أن الجحيم وحده ينتظر من هم خارج دائرة رضا واشنطن.

كان مفهومًا أن تكون الذخيرة الأولى للآلة الإعلامية الخليجية، المنطلقة ضد إيران من الكذب والتلفيق والادعاء، وكان طبيعيًا ومنطقيًا أن تحاول الأدوات الغربية الناطقة بالعربية إسقاط كل ما تعانيه على طهران، وإرجاع كل أزماتها ومشاكلها إلى وهم مخترع هو العدو الإيراني، ووصولًا إلى إعادة إنتاج ونشر الأسطوانة الأكثر قبحًا في التاريخ العربي والإسلامي كله، وهي أسطوانة الطائفية اللعينة، بكل ما تحمله من حمم الكراهية ونيران الحقد القديم المقدس.

سرعان ما تلقفت مواقع التبشير بالخراب المفتعل، أحدث تقارير صندوق النقد الدولي، عن توقعات النمو الاقتصادي العالمي بشأن إيران، والتي أكدت حدوث تراجع في مسار التعافي الاقتصادي الإيراني منذ عبوره أزمة جائحة كورونا، والتنبيه إلى تراجع النمو الاقتصادي السنوي إلى 2% في 2023، مقارنة بـ 3% خلال العام المالي الحالي 2022، بفعل استمرار الخضوع للعقوبات الأميركية.

وتلقف السحرة الكرة الجديدة بسرعة، وردوا تراجع النمو الاقتصادي -المتوقع- إلى المظاهرات الممولة أو الثورة الملونة التي ضربت بعض المدن الإيرانية لأيام، وحاولوا رسم صورة اعتمادًا على هذا المؤشر بأن السنوات السوداء قادمة، وتنتظر النظام الإيراني، الذي سيفشل في نهاية المطاف بمواجهة الحصار الأميركي والتراجع الاقتصادي.

ويستطيع أي شخص عاقل أن يصف هذا الأسلوب في التقييم والرؤية بأنه نوع من أنواع الدجل والنصب، فقياس أي اقتصاد لأي بلد على هذا الكوكب، لا يتم أبدًا بقراءة رقم أو مؤشر، بل بتحليل يضع على رأس أولويات بحثه المنطقي واللازم 3 عناوين رئيسية، أولها نمو الناتج المحلي الإجمالي للدولة، ثم طبيعة هذا الاقتصاد وحجم الصناعات التحويلية في الاقتصاد الوطني، كونها قطاعا اقتصاديا حقيقيا قادرا على الأداء بقوة دون التأثر بالسوق العالمية وضمان تلبية احتياجات البلد تحت أي ظروف، وأخيرًا كفاءة وعدالة نظام توزيع الدخل، وسياسات منع تركز الثروة وثمار النمو بين أقلية سلطوية أو طبقة صغيرة محظوظة.

لكن ماذا يقول تقرير صندوق النقد الدولي الأحدث فعلًا عن المؤشرات الاقتصادية في إيران؟ وكيف رسم توقعاته أصلًا للآفاق الاقتصادية العالمية في ظل تزامن توابع أزمة تفشي كورونا مع الحرب الروسية الأوكرانية، التي أطاحت بالكثير من آمال التعافي الاقتصادي لدى أغلب دول العالم، وجعلت    كل محلل يتوقع الأسوأ فقط خلال الفترة المقبلة، للاقتصاد العالمي؟

في مقدمة تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي 2022"، والصادر نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تقول توقعات صندوق النقد الدولي، إن العامين 2022 و2023 سيشهدان مزيدًا من الانكماش العالمي، ومن المنتظر أن يتراجع النمو الاقتصادي العالمي ككل من 6% في 2021، إلى 3.2% في 2022، ويستمر في الانخفاض في 2023 ليسجل 2.7%، نتيجة لتضافر عدد من العوامل والظروف العالمية التي ضربت احتمالات التعافي بعد فترة انتشار جائحة "كورونا" المروعة.

ويضيف التقرير، شديد السوداوية والتشاؤم، المزيد من ملح التوقعات إلى جراح الواقع اليومي الصعب، فيجزم بأن تشديد السياسة النقدية من جانب البنوك المركزية الغربية، تزامنا مع ارتفاع معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة في كل أنحاء العالم، ثم انكماش الناتج المحلي في الولايات المتحدة وأوروبا، وإجراءات الإغلاق العام في الصين مع طول أمد تفشي جائحة كورونا، وآثارها التي لا تزال تضرب بشدة عدة قطاعات اقتصادية، قد تقود إلى ارتفاع التضخم العالمي من 4.7% في 2021 إلى 8.8% في 2022، قبل أن يعاود التراجع إلى 6.5% في 2023 و4.1 في 2024، ما يزيد من هشاشة التعافي الاقتصادي العالمي، ويعرض آفاقه للمزيد من المخاطر والميل إلى التطورات السلبية، والأسوأ.

في الحقيقة يبدو التقرير متشائمًا للغاية، بشأن العالم كله، ولم يخص دولة معينة بالخروج من حالة الإحباط التي رسمها، فمنتجو النفط رغم الأيام الجيدة التي يجدون أنفسهم فيها، معرضون لخطر شديد فيما لو تراجعت الأسعار أو حدثت أقل هزة للاقتصاد الصيني الضخم، وهم أيضًا تحت رحمة ارتفاع أسعار الغذاء بصورة كبيرة ومستمرة، وارتفاع تكاليف النقل، وأزمة سلاسل الإمداد على المستوى العالمي.

وفي مثل هذه الظروف، فإن استمرار الاقتصاد الإيراني في تحقيق معدلات نمو إيجابية تتقارب مع مستهدفات خططها الاقتصادية، مع استمرار الحصار الأميركي، وهو حصار لا يعزلها عن السوق الغربية فحسب، لكنه يعزلها بالكلية عن النفاذ إلى أسواق العالم ونظام المالي الدولي كله، وبالتالي فإنها حققت ما لا شك أنه إنجاز بخيارات محدودة جدًا، وفي ظل تحديات بالغة الدقة والصعوبة.

والمتابع لحركة إيران وقرارها الواضح، وحتى منذ ما قبل إعلان ترامب تشديد العقوبات عليها، يدرك جيدًا أن لفظة "الاقتصاد المقاوم" هي المعتمدة لدى الحكومات الإيرانية المتتالية، كرد وحيد على البلطجة الأميركية، ورغبة كاملة في الخروج من دائرة التأثر الشديد بالقرار الأميركي، وأن فلسفة الاقتصاد المقاوم هي القيام بعملية تنمية اقتصادية/ اجتماعية، متمفصلة حول الذات، يحشد فيها الإيرانيون جل جهودهم لنقل الاعتماد الاقتصادي إلى قطاعات حقيقية، مثل الصناعة، وترتكز على قواعد خمس للعمل، هي الاعتماد بالدرجة الأولى على تعبئة الموارد والأدوات محليًا، ودفع عجلة البحث العلمي الصناعي، وربطه مباشرة باحتياجات هذا القطاع، وإجراء إصلاحات واسعة تضمن كفاءة الإدارة، وتقليل الاعتماد على عوائد النفط، والسير في هذا البرنامج كله بالدفعة الإيمانية والروح الوطنية.

والشاهد الأفضل هنا هو المدى الذي وصلت إليه الصناعات العسكرية المتطورة من تقدم ورقي، وبأيدٍ وطنية تمامًا، جعلت من خروجها إلى الساحة العالمية رقمًا صعبًا، وحصدت منتوجاتها على اعتراف بالكفاءة والقدرة خلال تطورات أحداث الحرب الروسية الأوكرانية، مع استمرار إستراتيجيتها العليا في المواجهة والتعبئة والتطوير المستمر، والدعم الهائل الذي تقدمه إلى محور المقاومة في المنطقة، وهو قادر بلا شك على تغيير معادلات القوة بين العرب وبين الكيان المؤقت ورعاته.