انتصار حقوقي بوجه ملك البحرين
لطيفة الحسيني
عندما بدأت أجهزة النظام البحريني بالتحضير لزيارة بابا الفاتيكان فرنسيس، ظنّت أن كلّ أهدافها ستتحقّق بمجرّد أن يطأ الحبر الأعظم أرض المملكة الخليجية. كلّ محاولات تجميل صورة السلطات أمام الغرب تبخّرت في دقيقة واحدة. بمعية البابا، وجد النظام نفسه أمام فضيحة حقوقية عجز عن تحمّلها فاضطرّ الى تجرّعها مُكرهًا.
الزيارة التي امتدّت 4 أيّام، تحوّلت الى عبءٍ على النظام، بعدما حثّ البابا فرنسيس سلطات المنامة على احترام حقوق الإنسان والحرية الدينية، داعيًا الى "ضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تعزيزها".
أمام الملك حمد بن عيسى آل ثاني في قصر الصخير، الذي غفا قليلًا، خطب بابا الفاتيكان مُنتقدًا عقوبة الإعدام السائدة في البحرين بقوّة ولا سيّما بحقّ المُعارضين السياسيين.
يتماشى كلام البابا واسم الملتقى الذي شارك فيه في المنامة الذي يهدف الى الحوار تحت عنوان "ملتقى الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني"، غير أن مراقبة ما تضمّنه يؤكد أمريْن جليّيْن:
أوّلًا: ليس بيد النظام أن يتحكّم بمبادئ التسامح الديني التي يسير عليها الحبر الأعظم.
ثانيًا: المنظمات الحقوقية والجمعيات السياسية عرفت كيف توصل إلى البابا قضيّتها ومطالبها.
حتّى "يجلد" البابا جرائم النظام وارتكاباته التي لم يعد قادرًا على إخفائها، بدءًا بسجناء الرأي وصولًا الى ضحايا الإعدام والتعذيب والتنكيل، وصلت الى مكتبه شكاوى وتقارير إنسانية بالجملة تُظهر حجم الظلم والغُبن اللاحق بأبناء هذا البلد الصغير.
النتيجة التي خرج بها البابا عند إلقاء كلمته التي اعتُبرت بين جمْع المُعارضين تاريخية واستثنائية، تُفيد أن قنوات التواصل بين الفاتيكان والقوى السياسية في البحرين مفتوحة. جُهد جبّار وشاقّ بُذل كي تصل القضية الى من يعوّل النظام على تغيير رأيه فيه، أي البابا، إمّا بالاحتفالات البرّاقة أو بفعاليات وندوات تحمل شعار التعايش غير الموجود أصلًا، ساهيًا عن باله أن للكنيسة الكاثوليكية آليّاتها لتقصّي ما يحصل حيث سيحطّ البابا، فهو لن يذهب الى مكان لا يُدرك ما يعانيه أهله ولأية أسباب.
على هذا الأساس، عملت المعارضة بكافة أطيافها وعلى مختلف الأصعدة الدينية والحقوقية والسياسية على إبلاغ الحبر الأعظم بالأزمة الحقوقية المستمرّة منذ عام 2011 في البحرين. لم تبقَ جِهة لم تسلّم البابا مطالبها أو تناشده وتُعبّر له عن هواجسها وأمنياتها التي لم تتوقّف عن رفعها طيلة سنوات المحنة، على رأسها المرجع الوطني الكبير آية الله الشيخ عيسى قاسم، والرموز المعتقلون آية الله الشيخ عبد الجليل المعتاد، الشيخ سعيد النوري، الشيخ محمد حبيب المقداد والأمين العام لجمعية الوفاق الشيخ علي سلمان، وأسر السجناء السياسيين، و130 منظمة تُعنى بحقوق الإنسان.
خطواتٌ استبقت وصوله ولاقت صدًى في حضوره. هذا ما بانَ أكثر في التسريبات التي استطاعت المعارضة الحصول عليها حول اجتماع الملك والبابا، خاصة أن الإعلام الرسمي التزم بأوامر الديوان الملكي، فلم ينشر أيّ مضمون لمداولات الجانبيْن.
بحسب جمعية الوفاق الوطني، أثار البابا مع الملك ووليّ العهد أزمة 2011، مُشدّدًا على ضرورة طيّ صفحتها، وداعيًا الى وقف التمييز المذهبي وتطبيق العدالة. ملفّ السجناء والمنفيين والمحكومين بالإعدام أخذ حيّزًا كبيرًا من حديث البابا مع الرجليْن الذي التقاهما كلًّا على حدة، وطالب بحلحلته، ليشعر البحرينيون بالأمن والطمأنينة والحياة الكريمة.
ما دار في هذيْن اللقاءيْن ظلّ طيّ الكتمان في إعلام النظام طبعًا، حتى سُجّلت "زلّة" في صحيفة "أخبار الخليج" جاء فيها أن "البابا تحدّث مع ولي العهد عن أحداث 2011 وما أعقبها من تداعيات واجراءات قامت بها السلطة داعيًا لبذل المزيد من الخطوات العملية لتجاوز ما أفرزته خصوصًا ما يتعلّق بأعداد المحكومين بالإعدام، إضافة لعدد من يقضون محكومياتهم والأفراد الموجودين خارج البلاد".
سريعًا تحرّكت وزارة الداخلية، وليس الإعلام للمفارقة، لنفي ما ورد في الصحيفة بالتوازي مع نفي الجريدة أيضًا، فيما ظلّ المسؤولون سائرين على تجاهل الأزمة. الملك وفور إلقاء البابا كلمته وإطلاق مناشدته الحقوقية، انتظر الى ما بعد منتصف الليل ليردّ ويُعلّق على مضمونها مُكرّرًا معزوفة حرصه على "حقوق الانسان وصيانتها والالتزام بها ممارسةً، ووضع الأطر الكفيلة بصيانتها وزيادة الوعي بها ثقافةً وفكرًا".
على درب الانفصام والإنكار نفسه، مشى رئيس مجلس الشورى علي بن صالح الصالح والأمينة العامة للتظلمات غادة حميد حبيب اللذيْن نوّها بما أسمياه ترسيخ البحرين لمبادئ حقوق الإنسان عبر تشريعات متقدمة ومبادرات وطنية تحظى بدعم الملك المعظم، على الرغم من التوصيات التي أطلقتها عشرات الدول في آخر جلسة عُقدت لمجلس حقوق الانسان في بجنيف والتي أكدت وألحّت على وقف عقوبة الإعدام في البحرين وسياسة التمييز هناك.
أبواق النظام كالعادة انشغلت في الترويج عبر منابرها المكتوبة والمرئية والتطبيل لإنسانية مفقودة في سجلّ النظام. هؤلاء وحدهم يرون تعايشًا لآل خليفة مع الآخر لكن أيّ آخر؟ البصّام والموالي والأقلية المسيحية في المملكة وصولًا الى الهندوس. عناوين تبعث على الضحك والسخرية من كمية التملّص من الحقيقة والتمييز داخل المملكة: "البحرين جزيرة الحب والسلام والتعايش من أجل الإنسانية". عنوانٌ يُثبت أن كتّاب البلاط في وادٍ والشعب المسحوق في وادٍ بعيد جدًا. بالموازاة، أحد الصحافيين الموالين يُطلّ عبر موقع خليجي ليهاجم المعارضة وجهودها على الزيارة معترفًا بتأثيرها بشكل غير مباشر.
على عكس ما أراد النظام لها، جاءت زيارة بابا الفاتيكان. منذ أن تفجّرت الأزمة السياسية والحقوقية قبل 11 عامًا، لم يحصل في البحرين أن ذهب ماء وجه الملك كما جرى أثناء ملتقى التعايش هذا. المعركة الحقوقية أتت أُكلها مع "المعظّم" الذي أضحى مُكبّلًا أمام كلّ حملات تعرية إنسانيّته المزوعومة.
انسحاب البحرين من عضوية مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قبل أشهر قليلة وهو أعلى هيئة في المنظمة الدولية، بعد إثبات سجلها المروّع على هذا الصعيد كان خطوة مؤثّرة في سياق إدانة النظام في النوادي الدولية، واليوم فإن تفاعل البابا مع مطالب شعبية يُبرهن كمْ أن النظام بات مهزومًا ومخذولًا. كذبه وادعاءاته مفضوحة ولا توصل سوى الى خسارته لشعبه وانسلاخه عنه تمامًا.