kayhan.ir

رمز الخبر: 159979
تأريخ النشر : 2022November09 - 20:23

روسيا تنتصر مع قدوم فصل الشتاء!

 

 د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن الأزمة الروسية ـ الأوكرانية فقد حاولنا كثيراً استعراض أبعاد الأزمة قبل الحرب وبعد بدئها. واليوم وبعد مرور ما يزيد عن ثمانية أشهر من العملية العسكرية التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 24 فبراير/ شباط 2022 وكان يؤكد منذ البداية أنها عملية عسكرية محدودة تستهدف إقالة الحكومة الأوكرانية التي تسعى للانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي ستجعل قوات الحلف الغربي قابعة على الحدود الروسية وهو ما يشكل تهديداً للأمن القومي الروسي، لكن مرّت الأيام واتسعت دائرة الحرب، فمع بدء العملية بعدد من الغارات الجوية التي استهدفت المواقع العسكرية الأوكرانية، ودخول الدبابات عبر حدود بيلاروسيا أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، وأطلقت صفارات الإنذار من الغارات الجوية طوال اليوم، وتدهورت البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بفعل الهجمات الالكترونية والقصف الروسي، وتمّت السيطرة من القوات الروسية على العديد من المباني والمدن الأوكرانية بما في ذلك محطة تشيرنوبيل النووية، وهنا أعلن مسؤول دفاعي أميركي بأن القوات الروسية سوف «تواجه مقاومة أكبر مما توقعت»، وكان ذلك مؤشراً على أن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دخلتا على الخط لمساعدة أوكرانيا في محاولة لإطالة أمد الحرب بهدف استنزاف روسيا وإنهاك قواتها المسلحة وتعطيل ظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

وتعود التوترات الروسية ـ الأوكرانية إلى العصور الوسطى، فكلا البلدين لديهما جذور في الدولة السلافية الشرقية المسماة (كييف روس)، لذلك لا عجب عندما يتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن (شعب واحد)، وكان مسار هاتين الأمتين عبر التاريخ مختلفاً، ونشأت عنه لغتان وثقافتان مختلفتان رغم قرابتهما، فبينما تطوّرت روسيا سياسياً إلى إمبراطورية، لم تنجح أوكرانيا في بناء دولتها، وفي القرن السابع عشر أصبحت مساحات واسعة من أوكرانيا الحالية جزءاً من الامبراطورية الروسية، ولكن بعد سقوط الامبراطورية الروسية في عام 1917، استقلت أوكرانيا لفترة وجيزة قبل أن تقوم روسيا السوفياتية بضمّها من جديد، وفي كانون الأول/ ديسمبر عام 1991 كانت أوكرانيا بالإضافة إلى بيلاروسيا من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي، إلا أنّ موسكو أرادت الاحتفاظ بنفوذها عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة (جي يو إس) وكان الكرملين وقتها يظن أن بإمكانه السيطرة على أوكرانيا من خلال شحنات الغاز الرخيص لكن ذلك لم يحدث، وبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائماً صوب الغرب، وهو ما كان سبباً لقلق وتوتر روسيا التي تعلم أنّ مثل هذه العلاقة تشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي.

عندما انهار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، وقامت الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بنزع الأسلحة النووية الأوكرانية، وتخلّت كييف عن مئات الرؤوس النووية إلى اميركا مقابل ضمانات أمنية لحمايتها من أيّ هجوم روسي محتمل، وشهدت موسكو وكييف أول أزمة دبلوماسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين ففي عام 2003 بدأت روسيا في بناء سدّ في مضيق كريتش باتجاه جزيرة (كوسا توسلا) الأوكرانية، واعتبرت كييف ذلك محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين، وازدادت حدة الصراع، ولم يتوقف إلا بلقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني تمّ خلاله الاتفاق على وقف بناء السد، ولكن الصداقة المعلنة بين البلدين بدأت تظهر بها العديد من التشققات، وأثناء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا عام 2004 دعمت روسيا المرشح القريب منها فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن الثورة البرتقالية المدعومة غربياً حالت دون فوزه، وفاز بدلاً منه فيكتور يوشتشينكو القريب من الغرب، وخلال فترة رئاسته قطعت روسيا إمدادات الغاز عن أوكرانيا مرتين في عامي 2006 و2009، كما قطعت أيضاً إمدادات الغاز إلى أوروبا المارة عبر الأراضي الأوكرانية، وفي عام 2008 حاول الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري، لكن قوبل ذلك باحتجاج الرئيس بوتين، وأعلنت موسكو بشكل واضح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا. ورغم فشل أوكرانيا في الانضمام للناتو إلا أنها حاولت الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي في عام 2013، وبعد أشهر قليلة مارست موسكو ضغوطاً اقتصادية هائلة على كييف وضيّقت على الواردات إلى أوكرانيا، وفي عام 2014 نفذت روسيا العديد من العمليات العسكرية في الأراضي الأوكرانية، بعد احتجاجات الميدان الأوروبي وعزل الرئيس الأوكراني المدعوم روسياً فيكتور يانوكوفيتش، بعد ذلك ضمّت روسيا القرم تحت سيادتها، بعد الاستفتاء في القرم حيث صوّت سكان القرم لصالح الانضمام إلى روسيا الاتحادية، بعد ذلك تصاعدت مظاهرات الجماعات الانفصالية المؤيدة لروسيا في دونباس، مما أدى إلى حدوث صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية والجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا، واستمر الصراع حتى اعترفت روسيا بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية كدولتين مستقلتين عن أوكرانيا في مطلع العام 2022 وقبل أيام من العملية العسكرية التي أطلقها الرئيس بوتين لبدء شرارة الحرب.

واستمرّت الحرب الروسية ـ الأوكرانية لما يزيد الآن عن ثمانية أشهر وهى في الأصل حرب روسية ـ أميركية تتمّ بالوكالة على الأرض الأوكرانية، وكانت روسيا تعتقد أنها لن تستمر طويلاً، لكن التصعيد الغربي والدعم الكبير لأوكرانيا أطال أمد الحرب، وهنا استخدم كلا الطرفين كل أوراقه المتاحة ففي الوقت الذي فرض الغرب عقوبات وحصاراً اقتصادياً كبيراً على روسيا، ردّت روسيا بالمثل وقامت باستخدام الورقة ذاتها حيث منعت إمدادات الطاقة المتجهة صوب أوروبا مما أصاب الدول الأوروبية بشلل تام وأغلقت معظم مصانعها المعتمدة بشكل رئيس على مصادر الطاقة الروسية، هذا إلى جانب ورقة الحبوب التي تنذر بأزمة غذاء وهو ما جعل الشارع الأوروبي ينتفض في وجه حكوماته من أجل الانسحاب من دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا. ومع اقتراب فصل الشتاء أصبحت الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في مأزق شديد، لذلك لا عجب حين تخرج علينا صحيفة «واشنطن بوست» بتصريحات لمصادر بالإدارة الأميركية تؤكد أن (زيلنسكي أصبح مطالباً من واشنطن بالتفاوض مع موسكو)، وبالطبع متوقع أن يقدم تنازلات، وما يؤكد ذلك ويدعمه هو زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي لكييف من أجل إعلان نية زيلنسكي للتفاوض، مع قرب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس والتي من المتوقع أن يكتسحها الجمهوريون الذين أكدوا أنهم سيوقفون دعم أوكرانيا الذي بات يشكل عبئاً اقتصادياً وسياسياً على أميركا في ظلّ أزمة الطاقة والأزمة المالية الراهنة، وهو ما يعني انتصار روسيا وقرب إعلان نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، اللهم بلغت اللهم فاشهد.