مسيرات مقارعة الاستكبار ومشهد العَوَر الإعلامي
علي عبادي
مسيرات ضخمة شهدتها عشرات المدن الإيرانية يوم أمس الجمعة في يوم مقارعة الاستكبار، الذي يوافق ذكرى اقتحام السفارة الاميركية التي كانت تُعد مركز التجسس على الشعب الايراني قبل انتصار الثورة الاسلامية عام ١٩٧٩. مرّت صور المسيرات مرور الكرام لدى وسائل الإعلام الغربية التي تعطي أهمية بالغة لأي تفصيل او صورة أخرى مختلفة من إيران.
تأطير الحدث الإيراني ليس جديداً، فهذه المسيرات المناصرة لمسيرة الثورة الإسلامية تتكرر بين وقت وآخر، لكن الإعلام الغربي لا يرى من إيران إلا أقلية تحتج في الشارع وتمارس أحياناً العنف باسم الثورة على النظام. انتقاء حدث صغير وإبرازه في العناوين ومساحة التغطية، وتجاهل حدث أكبر منه أو تهميشه، تكتيك مضلِّل يُدعى التأطيرframing news في عالم الإعلام، ولا يكتمل من دون وضعه في سياق تفسيري يهدف إلى توفير رؤية معينة للأحداث.
ضمن هذا المنظور، خروج الأكثرية المؤيدة للنظام الإسلامي في إيران ليس أمراً مهماً، والأقلية التي تحتج وتفرض العنف في الشارع هي الحدث ما دام أنها تتماشى مع مصالح الغرب الأميركي وتُظهر استعدادها للانضواء تحت جناحه وشروطه ومعاييره.
للتوضيح: في إيران فسيفساء من الاتجاهات الفكرية والسياسية؛ هناك اكثرية مع النظام تظهر بوضوح في ساعات التحدي، وهذه الأكثرية هي التي تشكل القاعدة الصلبة للنظام وتحميه من الهزات الكبرى، وضمن هذه الأكثرية متدينون ملتزمون وغير ملتزمين، تجد فيها بين النساء مثلاً من تلبس التشادور ومن تلبس الحجاب لكنها تكشف جزءاً من شعر الرأس. وهناك فئة ضمن الأكثرية لا تماشي السياسات الراهنة للنظام بكل تفاصيلها، لكنها تهبّ للمساندة عندما يتعلق الأمر بمصالح وطنية كبرى ومواجهة عدوان خارجي.
أما الشريحة الاعتراضية فهي قسمان: فئة راديكالية (جذرية) مناهضة للنظام تأمل وتعمل في الليل والنهار لقلب النظام لأنها تراه على خلاف صورتها ورؤيتها في السياسة والقيم والعلاقات مع الغرب خاصة، وتدعو لإقرار حريات على النمط الغربي، لكنها تتورط في ممارسات استبدادية وعنفية في الشارع مثل التعدي على الحجاب والعمامة والرموز الدينية وحرق الأملاك العامة وسيارات الإسعاف والإنقاذ. وهناك فئة أقل راديكالية تشعر أنها مهمَّشة سياسياً او محبطة اجتماعياً او متأثرة عاطفياً بالدعاية المضادة للثورة نتيجة عدم ائتلافها مع الوضع القائم والصعوبات الاقتصادية بسبب الحصار الاميركي، وهي مستعدة أحياناً للمشاركة في اي تحرك للتعبير عن نفسها، لكنها لا تذهب إلى المدى الذي تبلغه الفئة الراديكالية.
وبين هؤلاء وأولئك، فئة محايدة لا تكترث بالسياسة وجلّ همها تدبير شؤونها الخاصة، وهي فئة موجودة في كل بلد.
المهم أن الإعلام الغربي لا يرى من كل هذا المشهد الا الأقلية التي تناهض النظام جذرياً لأنها الأقرب إلى قلبه وتحقيق غايته بتغيير النظام الذي أعاد تشكيل الأحداث في المنطقة منذ العام ١٩٧٩ وشكّل تحدياً حقيقياً لنفوذ أمريكا في المنطقة وشعور "إسرائيل" بالأمان، برغم تهافت العديد من الأنظمة البائسة للتطبيع معها.
الآن، هدأت الأحداث الأمنية التي تفجرت بعد حادثة وفاة الفتاة مهسا أميني في مركز للشرطة الأسرية، وهو حادث لا يبرر - مهما يكن- موجة العنف التي تلته. وقد تمكنت مؤسسات النظام من اتباع سياسة احتواء سياسية وأمنية، ومنذ أسابيع تجري أحداث ينجم عنها عدد أقل من الضحايا أغلبهم من رجال الشرطة الذين يسقطون برصاص المسدسات في عمليات اغتيال ليلية. أصبح الرأي العام الإيراني أكثر نضجاً في نظرته إلى ما يجري وأكثر تعاطفاً في المجمل مع رجال الأمن الذين تحولت صورتهم من سلبية في بداية هذه الأحداث إلى إيجابية، من رجال قمع كما صوّرتهم الدعاية المضادة إلى حافظين للنظام العام، بل وإلى ضحايا التشويه الإعلامي والاغتيال الأمني.
عمليات التخريب والاغتيال خلقت مناخاً مضاداً للمناخ الانقلابي برغم التغطية الواسعة الخارجية التي توفرت دعماً له، فأساليب الاحتجاج العنيفة فضحت القائمين عليها وهشّمت منطقهم وجاذبية شعاراتهم. كما انعكست هذه المحنة إعادة تزخيم للحراك المعادي لأمريكا، فمسيرات الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر كانت تتم بصورة متواضعة في العادة، لكنها هذه السنة تحولت إلى استفتاء شعبي يعيدنا إلى مشاهد بدايات الثورة عام ١٩٧٩، وذلك ما كان ليتم لولا الشعور بخطورة ما يجري من أحداث وتدخل أمريكا وحلفائها الأوروبيين مباشرة في إذكائها. وبسبب ذلك، تحرك الحس الوطني والإسلامي المناهض للاستكبار الذي لا يزال يحلم بتكرار تجربة الانقلاب على حكومة القيادي الوطني محمد مصدق عام 1953 وإعادة زمن المتذللين لأمريكا باسم "الثورة البيضاء" على شاكلة تلك التي قادها الشاه عام 1963، والتي تبدأ بعناوين إصلاحية اجتماعية وتنتهي بالتغريب ورهن البلاد للنفوذ الأميركي والإسرائيلي.
وليس من قبيل الصدف أن الأحداث تفجَّرت في ذروة الكباش مع أميركا في مفاوضات فيينا، لتوظَّف في إضعاف النظام الإسلامي من الداخل بهدف إرغامه على تقديم تنازلات للجانب الاميركي.
تركت الموجة الأخيرة من أحداث إيران من دون شك نُدوباً في صورة إيران، لكنها حملت إيجابيات هامة لناحية إعادة تسليط الأضواء على بعض القضايا الداخلية التي تستوجب معالجات حثيثة، وتحقيق تقارب أكبر بين المسؤولين والشعب، والانتباه الى مفعول الحرب الناعمة وأدواتها التي تتم على مدار الساعة عبر وسائل التواصل وغيرها، الأمر الذي يتطلب ابتداع وسائل جديدة للقوة الناعمة الكامنة في مواجهة نفوذ الغرب. كما كشفت هذه الاحداث مجدداً العَوَر الإعلامي الذي تدار به تغطية الأحداث في إيران من قبل القنوات الغربية، حيث تحظى مسيرات مليونية داعمة للنظام بثوان قليلة (ويتم خلطها بخبر الاحتجاجات بحيث لا تميز هذه عن تلك)، بينما تفرد مساحة أكبر بكثير لمشاهد الشغب في الشارع الذي تقوده الأقلية.