موسكو وكسر الاصطفافات وتحديد الوجهة
ريما فرح
روسيا بحاجة كاملة لتحديد توجهاتها بعيداً من المصالح الاستراتيجية التي كانت قد سلكتها منذ تسلم الرئيس فلاديمير بوتين الرئاسة، لأن الحرب التي تخوضها أكبر من حرب حدود.
لعبة كسر الأحادية العالمية بدأت تأخذ طابعاً مغايراً عن الحرب غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، فكسر الاصطفافات التاريخية بين الدول الكبرى والدول الفاعلة تأتي ضمن إعادة ترتيب هذا العالم.
منذ أن بدأت الحرب في أوكرانيا، دارت تساؤلات كثيرة حول عدم اتخاذ موسكو مواقف صارمة تجاه تحالفاتها، وخصوصاً "إسرائيل" التي دعمت كييف، وما تزال، بكل الوسائل اللوجستية والاستخباراتية بشكل غير معلن، رغم التحذيرات التي تلقتها من روسيا التي تحتضن أهم وأكبر "لوبي صهيوني" في الشرق.
مساء الثلاثاء، أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية بياناً تعترف فيه بـ "سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها"، وأنها لن تعترف بنتائج الاستفتاءات في المقاطعات الشرقية لأوكرانيا، كما كان واضحاً كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد أنّ لدى "إسرائيل" خبرة كبيرة في إعادة تأهيل الجرحى، ولديها فرق طبية ومستشفيات ممتازة، وأنها فتحت أبوابها وقلوبها للجرحى من المقاتلين.
من الواضح جداً أنّ "إسرائيل" لا تحفظ ماء وجهها مع الخط الموازي للولايات المتحدة، علماً أنها، وبحكم احتلالها الجغرافي لفلسطين، بأمس الحاجة إلى استمرار تحالفها مع روسيا الموجودة على بعد أميال منها، والتي تنسج تحالفات معادية لأميركا في سوريا وإيران ومع حزب الله.
اليوم، روسيا بحاجة كاملة لتحديد توجهاتها بعيداً من المصالح الاستراتيجية التي كانت قد سلكتها منذ تسلم الرئيس فلاديمير بوتين الرئاسة، لأن الحرب التي تخوضها أكبر من حرب حدود. وبناء عليها، يترتب تحديد أطر العلاقات وحسم المواقف.
إنَّ الإجراءات التي خطتها موسكو تجاه "تل أبيب" لا ترتقي حتى الآن إلى مستوى "الخيانة" التي تعرضت لها، فإغلاق وزارة العدل للوكالة اليهودية منذ 4 أشهر رأى كثيرون أنها تأتي لمصلحة فريق داخلي إسرائيلي على حساب آخر، أي لدعم نتنياهو وقتها بوجه لابيد، وليس كرد فعل مباشر على النهج الإسرائيلي تجاه ما يجري في الحرب الدائرة.
روسيا التي كانت، وما زالت، المساهم الفعال في حماية دول الممانعة في مجلس الأمن، والتي كانت شريكاً في إحباط قرارات مجحفة عديدة، مطالبة اليوم أكثر بتحديد تحالفاتها أو اتجاهاتها؛ ففي سوريا، هي مطالبة بحماية الأجواء التي تنتهكها "إسرائيل"، التي تؤدي إلى تدمير منشآت حيوية لبلد اختار قيادته وبسط سيادته على أكثرية أراضيه، والتي تودي بحياة المدنيين وعناصر من الجيش السوري.
وفي لبنان، كون التوجه واضحاً في اختيار الخط الأميركي، فإن المطلوب هو دور روسي حاسم، إن لم يكن في السياسة أو التعاون الاقتصادي مع الحكومة، فربما من خلال الانخراط أكثر في المجتمع اللبناني عبر دعم المشاريع الاقتصادية الخاصة ودعم جمعيات مدنية، وخصوصاً التي تتلاقى مع سياستها الداعمة لعودة النازحين السوريين إلى بلدهم، وهو ما تعمل على عكسه الجمعيات المدعومة أميركياً.
أما العلاقة الإيرانية الروسية، فهي تحتاج إلى البلورة أكثر من أي وقت مضى، فالمطلوب هو المزيد من الإيضاحات وتحديد العناوين المشتركة ومناقشتها والعمل عليها، فلا يكفي التوحّد على العداء للولايات المتحدة الأميركية، لأن الملفات ذات الاهتمام المشترك، كسوريا أولاً، بحاجة إلى عمل لجان فعالة تحت عناوين واضحة متفق عليها بين الدولتين، إن كان لجهة دور كلّ منهما أو لجهة تحديد المواقف لكل منهما في موضوع "إسرائيل" وملف لبنان والسياسة التركية، إذ تجتمع الدولتان حول الحلف مع الرئيس رجب طيب إردوغان، من دون لمس سوريا ترجمات سريعة على أراضيها، بصرف النظر عن الاجتماعات التي يجريها البلدان على مستوى أجهزة الاستخبارات.
إن الوجود الروسي اليوم في سوريا يضع موسكو أمام اختبارات عدة: إما تقطف ثمار الحرب التي تخوضها مع العالم، من خلال أوكرانيا الوكيل، عبر تحديد "الاصطفافات" أو العلاقات، وإما تُبقي أي انتصار محاصراً من دويلات خاضعة لأميركا، ما يُخسرها الحاضنة الشعبية التي أتت بها إلى هذه المنطقة تحديداً.