لبنان: أزمة نظام تعمّق الطائفيّة والشلل… فما المخرج؟
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يستطع لبنان خلال قرن من الزمن أن يبني دولة المواطن وينظم وطناً يتساوى فيه المنتمون اليه، حيث كان معظم المسؤولين فيه او الذين تداولوا السلطة والحكم ينظمون أولوياتهم بشكل تتقدّم مصالحهم الخاصة على أيّ اعتبار، تليها مصالح البعض من طائفتهم ومناطقهم، أما لبنان الوطن والدولة الجامعة فلم تكن يوماً عند معظم السياسيين في لبنان أولوية جدية بل كانت في معظم الأحيان مادة للاستهلاك الإعلامي يتداولونها بنفاق كليّ وكذب وغش من أجل أن يغطوا به على نزعاتهم الطائفية المقيتة.
وقد قاد هذا النهج المنحرف لا بل والمَرَضي العقيم (المصاب بمرض) الى مآسٍ وويلات دفع ثمنها المواطن اللبناني كفرد والشعب كجماعة وأمة (وفقاً لنص الدستور) والدولة ككيان اعتباريّ ينبغي أن يكون مستحوذاً على كامل السلطة والهيبة والقرار في البلاد، دفع الجميع الأثمان الباهظة وتكبّدوا خسائر لا تحدّ في الأمن والعيش والثروة، حيث وصل لبنان بعد مئة عام من تركيبه السياسي الحالي وحكمه الطائفي القائم الى وضع من البؤس والسوء لا ينافسه فيه أحد في الدنيا، حيث سرقت الأموال وفقدت الثروات وبات أيّ وصف للحالة المزرية التي يعيشها لبنان واللبنانيون المقيمون فيه أقلّ من الحقيقة والواقع مهما جهد الباحث في احترام قواعد الموضوعيّة في الوصف.
والآن يتحضّر لبنان للدخول في مرحلة مصيرية قد تكون رغم تماثلها مع ما سبقها من حالات مشابهة، منفردة منفصلة عما عداها، عنيت بها مسألة رئاسة الجمهورية التي ستخلو سدّتها اعتباراً من 1/11/2022 في ظلّ العجز الظاهر عن انتخاب رئيس جديد وفقاً لقواعد الدستور.
إنّ موقع رئيس الجمهورية في لبنان وحتى بعد التعديلات الجذرية التي أتى بها اتفاق الطائف الذي قلّص هذه الصلاحيات الى ما دون الربع مما كان قائماً في الدستور القديم، وما تبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية ورغم ضموره كما ذكرنا، يبقي لرئاسة الجمهورية دوراً مهماً إذا تمّ احترامه والعمل بما يفرضه النص الدستوري.
وبعيداً عن التعابير المعنوية او الشكلية التي لا تترجم في أرض الواقع فإنّ رئيس الجمهورية ومهما كانت صلته بمجلس النواب والأكثريات القائمة فيه، هو شريك رئيسي في الحكم انطلاقاً من تشكيل الحكومة، وهو صاحب الصلاحية الحصرية في التفاوض مع الخارج وهو الضابط لأعمال مجلس الوزراء الذي أنيطت به السلطة التنفيذية، ضبط يتجلّى خاصة في حقه بالمشاركة في وضع جدول الأعمال وترؤس الجلسة إذا حضر وطلب إعادة النظر بقرارات المجلس، هذا فضلاً عن أنه يملك التوقيع الذي لا بدّ منه ولا يستطيع أن يجبره عليه أحد لكافة المراسيم العادية التي لا تمرّ في مجلس الوزراء.
هذا الموقع الذي هو عليه وضع الرئاسة في لبنان منح الرئيس صلاحية المساهمة والشراكة في الحكم بحدود معينة والقدرة على الرفض في مجالات محددة، لكنه لم يمنحه القدرة على الحكم منفرداً ولم يوله صلاحية إدارة الدولة كما كان في دستور ما قبل الطائف، وبات اليوم بمقدور رئيس الجمهورية ممارسة الرقابة ومنع الانحراف وليس له اتخاذ القرار وممارسة الحكم بإرادته المنفردة، وإضافة الى ذلك لا بل قبل ذلك فإنّ رئيس الجمهورية يؤمّن في الحكم تمثيل طائفته ليرسي مفهوم الشراكة والميثاقية المسماة “ميثاقية وطنية” للسلطة القائمة.
ولأن لموقع رئيس الجمهورية هذا القدر والخطورة والأهمية فقد ألزم الدستور بتدابير قاسية لانتخاب رئيس الجمهورية من حيث النصاب والأكثرية المطلوبة، ما فتح المجال واسعاً لإمكانية تعذر الانتخاب إما لتعذر اكتمال النصاب او لتعذر تحقق الأكثرية، وهذا ما احتاط له الدستور حيث أناط في هذا الوضع صلاحيات الرئيس بمجلس الوزراء، ولكن أيّ مجلس وزراء عناه الدستور لتولي مهام الرئاسة؟
من المنطق الدستوري والقانوني انّ المكون الدستوري يجب أن يكون مستوفي الشروط حتى يمارس المهام المنوطة به. وإذا تخلفت شروط مشروعية وجود المكون فإنّ الأعمال التي تصدر عنه تعتبر باطلة لصدوره عن سلطة غير صالحة.
وفي هذا المجال فإنّ حكومة مستقيلة تمارس مهام تصريف الأعمال بالقدر الضيّق كما ينص الدستور ليس لها ان تمارس مهام رئيس الجمهورية عند خلو سدة الرئاسة، ويكون المنع أشدّ في حالة اعتبار الحكومة مستقيلة بسبب بدء ولاية مجلس النواب الجديد، كما هو الوضع قائماً الآن. فهذه الحكومة تولت السلطة سنداً لثقة مجلس نواب انتهت ولايته وبالتالي لا ارتباط بينها وبين المجلس الحالي الذي تغيّرت فيه الأكثرية عما كانت علي في السابق. وعليه نرى أنّ القول بإمكانية تولي هذه الحكومة مهام رئيس الجمهورية دون تأكيد جديد على دستوريتها وشرعيتها عبر مراسيم جديدة تعوّمها وثقة تمنح لها من مجلس النواب الجديد هو قول في غير محله الدستوري وانْ فعلت فإنها تكون بمثابة من استولى على السلطة بالأمر الواقع وليس بالحكم الدستوري.
بيد انه إذا قلنا بعدم صلاحية هذه الحكومة للحكم وفقاً للدستور فإنّ هناك اشكالية خطيرة تطرح مضمونها السؤال من يحكم اذن؟
وجوابنا هنا يبدا بوجوب الاختيار بين الحكم الدستوري الصريح او الضمني وبين المبدأ والمصلحة الوطنية التي تحدّدها قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، فإما ان يعمل بقاعدة الحكم الدستوري نصاً وروحاً وفلسفة، او يؤخذ بقاعدة “الضرورة” بشمول لا يكون فيه انتقائية. وهنا إذا أجيز لحكومة تصريف الأعمال أن تمارس مهام رئيس الجمهورية رغم العيب في وجودها وعملاً بقاعدة الضرورة فإننا نسأل لماذا لا يجاز لرئيس الجمهورية، وهو قطب في الشراكة الطائفية في الحكم، الاستمرار في إشغال مقعده حتى انتخاب البديل في ظلّ عدم شرعية الحكومة المستقيلة لممارسة هذه المهام؟ خاصة أنّ في استمرار الرئيس في موقعه هو حَث للأكثرية النيابية على إعادة تنظيم نفسها وانتخاب البديل.
مع هذه الأسئلة نعود للتأكيد بأنّ لبنان وفي ظلّ الأحكام الدستورية النافذة يعاني من أزمة نظام افتضحت عيوبه بشكل خاص منذ العام ٢٠٠٥ تاريخ خروج سورية منه، حيث تبيّن انّ الأحكام النافذة لا تمكن من إنتاج او إعادة تكوين السلطة بشكل آلي سلس والسبب في ذلك هي العلة في الأحكام والطائفية والمحاصصة في الممارسة ولا يمكن ان يكون الحلّ إلا بمراجعة تلك الأحكام بما يؤمّن فعاليتها في إنتاج سلس للسلطة. ايّ بصراحة يجب الاعتراف بأنّ النظام السياسي اللبناني هو نظام غير قابل للحياة ولا يؤمّن مصلحة الدولة والمواطن فيها وتجب إعادة النظر فيه.
وحتى الاتفاق على النظام البديل المطوّر ومن أجل الخروج من المأزق المرتقب المتصل بالعجز عن انتخاب رئيس جمهورية بديل نرى انّ المخارج يمكن اعتمادها عبر مسلك من ثلاثة، هي مسالك نطرحها موضوعياً بصرف النظر عن إمكانية النجاح في تنفيذها، ولذلك نتدرّج في العرض حتى نصل الى واحد يمكن العمل واقعياً وهي:
1 ـ تطبيق الدستور واحترام المهل التي يحدّدها باتفاق الكتل النيابية القائمة على رئيس يؤمّن له النصاب والأكثرية للانتخاب (وهو أمر يبدو شبه مستحيل في ظلّ الوضع القائم).
2 ـ التقيّد بأحكام الدستور الاستثنائية بعد تشكيل حكومة يمنحها مجلس النواب القائم ثقته وتتولى هي مهام صلاحيات رئاسة الجمهورية عند الفراغ، على ان تراعي في التشكيل مهمتها تلك وموقع رئيس الجمهورية في النظام الطائفي، وطبعاً نذكّر بأنّ مجلس الوزراء المنعقد أصولاً هو من يتولى تلك الصلاحيات وليس رئيس الحكومة.
3 ـ العمل بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات وقبول استمرار الأمر الواقع أيّ استمرار رئيس الجمهورية في موقعه بعد انتهاء ولايته سنداً الى ذريعة “عدم وجود البديل الدستوري لممارسة هذه المهام”، واستمرار وزراء الحكومة المستقيلة معه في مواقعهم تحت عنوان تصريف أعمال الحكم مع مراعاة المعنى الضيّق في تصريف الأعمال.