kayhan.ir

رمز الخبر: 1562
تأريخ النشر : 2014June06 - 19:58
أوكرانيا تتجه بسرعة نحو المصير المجهول

أميركا تتآمر.. أوروبا تتخاذل وروسيا تدافع عن وحدة وسلامة أوكرانيا

القسم الاول

جورج حداد

في 21 شباط الماضي، وفي اعقاب الاضطرابات التي شهدتها كييف حتى ذلك التاريخ، وبعد مباحثات مطولة بين الرئيس السابق المخلوع فيكتور يانوكوفيتش وزعماء المعارضة الاوكرانية حينذاك، من ضمن وساطة روسية ـ المانية ـ بولونية، وافق الطرفان على اتفاق ينص على تعديل الدستور والعودة الى دستور 2004 الذي يقلص صلاحيات الرئيس وعلى اعادة توزيع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بين الرئاسة والبرلمان ومجلس الوزراء، وعلى اجراء اصلاحات في النظام السياسي القائم، وتشكيل حكومة ائتلافية مؤقتة انتقالية، ومن ثم اجراء انتخابات رئاسية مبكرة في 25 ايار 2014، لانتخاب رئيس جديد للبلاد. كما نص الاتفاق على عدم استخدام الجيش وقوى الامن للسلاح ضد تحركات المعارضة، وعلى قيام جميع المجموعات المسلحة من اي طرف كان بتسليم الاسلحة غير الشرعية الى السلطة الشرعية، وتقديم جميع من تلطخت اياديهم بالدماء الى القضاء.

اميركا والفاشست لا يريدون التسوية

ويبدو ان هذا الاتفاق لم يَرُقْ أميركا، خارجيا، والمجموعات الراديكالية ـ الفاشستية المرتبطة بها، داخليا، فتم على الفور تنظيم انقلاب دموي ضد حكم يانوكوفيتش الذي اضطر الى اللجوء الى روسيا خوفا على حياته، وقامت المجموعات الفاشستية المسلحة بمهاجمة واحتلال المباني الحكومية، بما في ذلك البرلمان، في وقت منع فيه على قوى الامن استخدام السلاح حتى للدفاع عن النفس، وسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى من قوات الشرطة المكلفة بالحراسة، وفي الغالب كان يجري "انتقاء" عناصر الشرطة الذين يتم قتلهم من الناطقين بالروسية، ولا سيما من ابناء المقاطعات الشرقية والجنوبية في اوكرانيا الذين يقضون خدمتهم في كييف. وبهذه الطريقة "الديمقراطية" تماما اقتحم الفاشست البرلمان من دون ان تطلق عليهم رصاصة واحدة، واجبروا النواب على انتخاب رئيس مؤقت جديد هو رئيس البرلمان تورتشينوف المؤيد للمعارضة الموالية للغرب، وعلى تشكيل حكومة جديدة من الموالين للغرب وعلى رأسها ياتسينيوك الذي لم يكن قد جف بعد حبر توقيعه على اتفاق 21 شباط، ولاحقا صادق البرلمان تحت فوهات البنادق على قرار بإلغاء استخدام اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية في البلاد، ما يمس بالمصالح الحياتية والحقوق الثقافية للمواطنين الاوكرانيين الروس والناطقين باللغة الروسية (يقدر عددهم بـ20 مليونا من اصل 46 مليونا هم سكان اوكرانيا، ويقدر الشوفينيون الاوكرانيون عدد الروس بـ8 ملايين)، كما جرى تقديم مشروع قرار الى البرلمان بالتصويت على انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو. ولكن حكومة ياتسينيوك عادت فتراجعت وطلبت ان يسحب مؤقتا مشروع قرار الانضمام الى الناتو من البرلمان. وتم صرف النظر عن كل بنود اتفاق 21 شباط للخروج بحل سياسي سلمي للازمة الوطنية في اوكرانيا، الا بندا واحدا هو اجراء انتخابات رئاسية مبكرة في 25 ايار، وذلك من اجل انتخاب رئيس شرعي جديد، لان يانوكوفيتش كان لا يزال عمليا ودستوريا هو الرئيس الشرعي المنتخب من الشعب كما ينص الدستور.

الانتفاضة الشعبية

وقد ردت الجماهير الشعبية المعادية للفاشية بالتظاهر والاحتجاج على هذا الانقلاب الفاشستي والنتائج التي اسفرت عنه، وانضم قسم كبير من وحدات الجيش وقوات الشرطة الى الجماهير المعادية للفاشية، ولا سيما في المناطق الشرقية والجنوبية وشبه جزيرة القرم، ذات الاغلبية الروسية. ولكن الانقلابيين لم يقفوا مكتوفي الايدي، بل حشدوا القوى الفاشستية واعطوها الصفة الرسمية تحت اسم ما يسمى "الحرس الوطني"، بالاضافة الى المجموعات المنظمة تحت اسم تنظيم "القطاع الايمن"، واستقدموا قوات المرتزقة من الوكالات الامنية الاميركية مثل "اكاديمي" و"بلاك ووتر".

التنكيل الفاشستي لاجل "الديمقراطية"

وبدأ الفاشست يشنون الهجمات ضد الجماهير المعادية للانقلاب الموالي للغرب وللفاشية، ويعتدون بالضرب الوحشي واحيانا كثيرة بالضرب حتى الموت ضد اخصامهم ويعتدون على عائلاتهم ويحرقون بيوتهم في كييف والمناطق الغربية من اوكرانيا. وحينما قامت الشرطة بمنح اجازات للعناصر من المقاطعات الشرقية والجنوبية وسمحت لهم بالعودة الى بيوتهم حماية لهم من الاعتداءات وحفاظا على حياتهم، كان الفاشستيون والمرتزقة الاميركيون يكمنون لهؤلاء الرجال في الطرقات المؤدية الى الشرق، ويوقفون الباصات التي تقلهم، وينزلونهم منها، ويحرقون الباصات، ويجبرونهم على الركوع، ويقومون بـ"حفلات" تنكيل وشتائم وضرب وحشي واطلاق نار وقتل لهؤلاء الرجال والشبان الذين كانوا يخدمون في صفوف الشرطة النظامية الاوكرانية ولا ذنب لهم سوى انهم يتكلمون اللغة الروسية. وكانت العائلات في المدن والبلدات الشرقية والجنوبية التي تنتظر عودة الازواج والآباء والابناء الذين يخدمون في الشرطة في كييف، تستقبل الجثث المشوهة والمحروقة لهؤلاء الرجال والشبان وتقيم جنازاتهم بصمت وغضب.

اوكرانيا وروسيا

ولم تكتف بذلك التنظيمات الفاشستية المنضوية في تنظيم "القطاع الايمن" و"الحرس الوطني" الفاشستي، والمعززة بعناصر المرتزقة من "بلاك ووتر" والمخابرات الاميركية، بل أخذت ترسل المجموعات المسلحة بالقطارات والباصات، الى المدن الشرقية والجنوبية ذات الاغلبية الروسية، لاقتحام الابنية العامة واحتلالها، واحتلال المدارس ومنع تعليم اللغة الروسية والتعليم بها، ومهاجمة المظاهرات الشعبية السلمية المعادية للفاشية. وفي مدينة اوديسا الساحلية هاجم الفاشست احدى المظاهرات السلمية وأمطروها بوابل من رصاص القناصة والعناصر المسعورة، فاضطر قسم كبير من المتظاهرين للاحتماء بمبنى النقابات في المدينة، فعمد الفاشست الى احراق المبنى بمن فيه، وكانوا يصطادون بالرصاص كل من يحاول ان يخرج من النوافذ هربا من النار، ويتلقفون كل من يهرب من الابواب حتى وهو ثيابه مشتعلة ويصرخ طالبا النجدة، وينهالون عليه بالهراوات الغليظة (هراوات الكريكيت) ضربا ودوسا حتى الموت. وحاولت سلطات كييف التقليل من شأن هذه المجزرة بالقول ان عدد الضحايا بلغ "فقط" 49 شخصا، ولكن التقديرات المستقلة تقدر عدد الضحايا في محرقة اوديسا بين 120 و200 ضحية. وطبعا ان مؤسسات "حقوق الانسان" التابعة للامم المتحدة واميركا والاتحاد الاوروبي "لم تر" هذه الجريمة لانها تدخل تحت عنوان نشر "الديمقراطية" الاميركية والغربية. وحتى الان تتهرب سلطات كييف، مدعومة من اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي، من اجراء تحقيق نزيه ومحايد في هذه المجزرة، بل انها بالعكس اتهمت الذين اعتصموا بمبنى النقابات بأنهم "ارهابيون" متسللون من روسيا. علما انه لم يتم حتى الان "القبض" على اي "متسلل" من روسيا، حيا او ميتا، لا في اوديسا ولا في غيرها. ولكنه تم القبض على عناصر للمخابرات الاميركية من قبل "قوات الدفاع الذاتي" الشعبية في بعض مدن المقاطعات الشرقية والجنوبية.

تيموشينكو تهدد بالقنبلة الذرية

وقد صدرت عن الاوساط الفاشستية والموالية للغرب تصريحات عنصرية استفزازية تهدد بطرد الروس ـ الاوكرانيين وابادتهم. ومنها تصريح لرئيسة الوزراء السابقة الموالية للغرب يوليا تيموشينكو التي هددت بضرب الروس بالقنبلة الذرية. واعتبر تصريحها تمهيدا لانضمام اوكرانيا لحلف الناتو وتحويلها الى قاعدة نووية ناتوية ضد روسيا.

الاستفتاء الشعبي في الشرق والجنوب

امام هذا الوضع الدرامي، قامت في المقاطعات ذات الاغلبية الروسية، اي المقاطعات الشرقية والجنوبية ولا سيما شبه جزيرة القرم، انتفاضة شعبية حقيقية ترفض الاعتراف بسلطة كييف الانقلابية اللاشرعية وتعلن عزمها على عدم السماح بعودة الفاشستية الى الحياة السياسية في البلاد، وتطالب بالانفتاح على اوروبا الغربية مع الاحتفاظ بعلاقات ثقافية واقتصادية وسياسية وامنية وعسكرية مميزة مع روسيا وتطوير تلك العلاقات، نظرا للروابط الاخوية التاريخية مع روسيا، ونظرا لان روسيا هي الداعم الاساسي للاقتصاد الاوكراني وبالاخص اقتصاد المناطق الشرقية والجنوبية ذات الاغلبية الروسية، التي تلقى الاهمال والتمييز من سلطات كييف، مع ان هذه المناطق، التي توجد فيها غالبية الصناعة المنجمية والتعدينية والسياحة وخطوط النقل البحري، وصناعة محركات الطائرات التي تشتريها روسيا، تمثل العمود الفقري للاقتصاد الاوكراني.

وقد انضمت غالبية قوات الجيش الاوكراني وقوات الشرطة المتواجدة في المناطق الشرقية والجنوبية الى جانب الانتفاضة، بما في ذلك الطائرات والسفن الحربية. وسمح للجنود والضباط ابناء المناطق الاخرى الذين اختاروا الولاء لسلطات كييف، بالعودة بسلام الى بيوتهم.

شبه جزيرة القرم تعود الى روسيا

وفي مدينة سيباستوبول ذات الوضع الاداري الخاص، وفي شبه جزيرة القرم التي هي جمهورية ذات استقلال ذاتي، اجتمع المجلس البلدي للمدينة والبرلمان المحلي للجمهورية، وقررا الانفصال عن كييف واجراء استفتاء في 16 اذار 2014 حول استقلال الجمهورية والمدينة. وجرى الاستفتاء بنجاح في تاريخه المحدد، وصوتت الغالبية الساحقة من سكان شبه جزيرة القرم بما فيها مدينة سيباستوبول الى جانب العودة الى احضان الوطن الام ـ روسيا. وفي 30 اذار 2014 قام رئيس الوزراء الروسي دميتريي ميدفيدييف بزيارة الى شبه جزيرة القرم، وبدأت الاجراءات العملية لتوحيد شبه الجزيرة مع روسيا. وفي 9 ايار الماضي، وبمناسبة يوم النصر على الفاشستية في الحرب العالمية الثانية والذكرى 70 لتحرير سيباستوبول من الفاشية، قام الرئيس بوتين يرافقه عدد من الوزراء وكبار قادة القوات المسلحة الروسية، بزيارة شبه جزيرة القرم وسيباستوبول، وحضر العرض البحري والجوي المهيب احتفالا بالذكرى، امام صمت وذهول اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي، باستثناء تصريح خجول من قبل الحكومة الانقلابية في كييف تحتج فيه على زيارة بوتين بدون اذن منها.

الجمهورية الشعبية في دونيتسك ولوغانسك

وفي غضون ذلك كانت مقاطعتا دونيتسك (حوالى 5،4 ملايين نسمة) ولوغانسك (حوالى 5،2 مليوني نسمة) قد اعلنتا نفسيهما كجمهوريتين شعبيتين مستقلتين عن اوكرانيا، وقررتا اجراء استفتاء في 11 ايار حول الاستقلال. ومع ان الرئيس بوتين شخصيا اجرى مؤتمرا صحافيا مع ممثلي وكالات الاعلام العالمية وناشد سكان دونيتسك ولوغانسك بتأجيل الاستفتاء والمشاركة في حوار وطني شامل حول مستقبل اوكرانيا، الا ان المنظمات الشعبية الناشطة والهيئات التمثيلية في المقاطعتين أصرت على رفض الاعتراف بشرعية السلطة الانقلابية والفاشية التي قتلت ابناء المناطق الشرقية حتى وهم في لباس الشرطة في كييف، وأصرت على السير قدما في التحضير للاستفتاء الذي جرى في موعده وشارك فيه اكثر من 90% من السكان وصوتت الاغلبية الساحقة لمصلحة الاستقلال عن اوكرانيا والانضمام الى الجمهورية الفيديرالية الروسية. وبدأ على الفور تشكيل مؤسسات الجمهورية المستقلة في كل من دونيتسك ولوغانسك، وبالدرجة الاولى تنظيم قوات الدفاع الذاتي الشعبي ـ نواة الجيش الشعبي المستقل في الجمهوريتين الفتيتين. وقد تم كنس وطرد العصابات الفاشستية ومجموعات المرتزقة الاجانب بسهولة نسبية من اراضي الجمهوريتين.

جميع محاولات اقتحام المدن المنتفضة باءت بالفشل لكن الوضع الحياتي فيها أصبح صعباً

وأعلنت "الجمهوريتان" رفض الاعتراف بشرعية اجراء الانتخابات الرئاسية في 25 ايار، وقامت قوات الدفاع الذاتي الشعبي بطرد اللجان الانتخابية التي ارسلتها كييف، وتمزيق اللوائح وتحطيم صناديق الاقتراع. وتوجهت القيادة الروسية بدعوة الى مختلف الاطراف المتنازعة في اوكرانيا للجلوس الى طاولة المفاوضات واجراء حوار وطني شامل، ودعت اميركا والاتحاد الاوروبي للتأثير على "حلفائهما" في اوكرانيا للجلوس الى طاولة المفاوضات واجراء حل سلمي للمشكلات القائمة والتفاهم على اجراء اصلاحات مقبولة من الجميع كمقدمة لاجراء انتخابات رئاسية جديدة. ولكن سلطة كييف الانقلابية والفاشية، مدعومة من اميركا والاتحاد الاوروبي، وجهت الجيش الوطني الاوكراني، بما في ذلك الطيران الحربي والصواريخ والمدفعية الثقيلة، لمحاصرة مدن الانتفاضة الشعبية في الشرق والجنوب، ومنع الاغذية والادوية عنها، وقصفها من الجو والبر. وكانت طائرات الهليكوبتر والطائرات الحربية الاخرى تصطاد الكميونات التي تنقل متطوعي قوات الدفاع الذاتي الشعبي المسلحين بالبنادق الخفيفة وتوقع فيهم خسائر جسيمة. وقد استهدفت المدارس والمستشفيات والمجمعات السكنية، بحجة مطاردة "الارهابيين المتسللين من روسيا". ولكن جميع محاولات اقتحام المدن المنتفضة، وبالرغم من كل الخسائر والتضحيات، باءت بالفشل. الا ان الوضع الحياتي في تلك المدن اصبح صعبا للغاية. وبدأ ترحيل الاطفال الى شبه جزيرة القرم. ولم تتورع قوات كييف عن ان تطلق النار على الباصات التي تنقل الاطفال. وقد وجه الاهالي نداءات الى الشعب والقيادة الروسيين والى الرئيس بوتين شخصيا يقولون فيها "ساعدونا! انهم يجوعوننا ويقتلوننا فقط لاننا روس!". وقد بدأت الجماهير الروسية تجمع المساعدات الانسانية لارسالها للمدن الاوكرانية المنتفضة. ولكن القيادة الروسية ظلت متمسكة بموقفها بالدعوة الى الحوار الوطني الشامل، والمحافظة على الحقوق الثقافية والاجتماعية للجماهير الروسية في اوكرانيا، وايجاد حل سلمي للمشكلات القائمة وتجنيب اوكرانيا خطر الحرب الاهلية.


القسم الثاني

الانتخابات الرئاسية

وفي هذه الظروف القاسية التي لا يعرف فيها مصير اوكرانيا، وعلى وقع القصف والتعديات الدائمة والحصار الذي تتعرض له مقاطعات شرقي وجنوب اوكرانيا والقمع الذي يتعرض له المعارضون للسلطة الحالية في جميع انحاء اوكرانيا، جرت الانتخابات الرئاسية في 25 ايار الماضي في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الانقلابية فقط، وفاز فيها الملياردير الاوكراني بيوتر بوروتشينكو، بنسبة تزيد عن 54% من اصوات المقترعين، ما لا يستدعي اجراء دورة انتخابية ثانية. وصرحت القيادة الروسية انها ستحترم ارادة الناخبين الاوكرانيين وتتعامل بواقعية مع سلطة كييف الجديدة. ويعتبر المراقبون ان الرئيس الاوكراني الجديد هو موال للغرب معتدل وفي الوقت ذاته من انصار الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع روسيا ولا سيما على "جبهة الغاز"، سواء لجهة اعتماد اوكرانيا على الغاز الروسي او لجهة تصدير الغاز الروسي الذي يمر ترانزيت عبر الاراضي الاوكرانية الى البلدان الاوروبية الاخرى، وخصوصا ان اوكرانيا قد خسرت بدل الايجار الذي كانت تحصل عليه بكميات غاز مخفضة الاسعار لقاء تأجير القاعدة البحرية في سيباستوبول، التي انضمت الى روسيا، وصارت اوكرانيا، بالاضافة الى ديون الغاز الاخرى، مديونة ايضا بـ 11 مليار دولار لروسيا، مقابل كميات الغاز التي حصلت عليها مسبقا كبدل ايجار لقاعدة سيباستوبول حتى سنة 2042، وشركة "غازبروم" الروسية تطالب الان اوكرانيا بهذا المبلغ، لان سيباستوبول اصبحت قانونيا روسية. وعقب انتخابه صرح بوروتشينكو انه عازم على زيارة مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك المنتفضتين والحوار مع القوى السياسية هناك. واعتبر الكثير من المراقبين ان مثل هذه الخطوة قد تكون فاتحة جيدة نحو اجراء حوار وطني مباشر وشامل بين مختلف الاطراف الاوكرانية وحول مختلف القضايا المتنازع عليها.

الرئيس الجديد يوافق على تشديد الحملة العسكرية

ولكن بدلا من ان يتم اقرار هدنة ولو مؤقتة لسحب الجثث على خطوط المواجهات العسكرية، ولا سيما في محيط مطار دونيتسك الذي تعرض لهجمات شرسة من قبل الجيش الاوكراني، وكتمهيد لزيارة بوروتشينكو الى المقاطعات المنتفضة، قررت حكومة ياتسينيوك الانقلابية واللاشرعية اصلا تشديد الحملة العسكرية ضد شرق وجنوب اوكرانيا وهي تزعق بكل وقاحة (على طريقة: امسكوا الحرامي) ان الاراضي الاوكرانية تتعرض لعدوان روسي. ومن اجل اخفاء الحقائق عن الرأي العام العالمي عمدت الحكومة الانقلابية الى منع الصحافة المستقلة من الحضور ميدانيا، واخذ القناصة الفاشست يطلقون النار عمدا على الصحفيين، فقتلوا صحفيا فرنسيا، وجرحوا عدة صحفيين غيره، وتم اعتقال عدد من الصحفيين الروس والتنكيل بهم واتهامهم بانهم "ارهابيون"، مع ان بعضهم يتبع لبعض الصحف الروسية الموالية للغرب والمعارضة لحكم الرئيس بوتين. وقد أيد الرئيس الجديد تشديد الحملة العسكرية، ضاربا عرض الحائط بتصريحاته حول زيارة الاقاليم الشرقية والجنوبية المنتفضة. والمستغرب جدا ان الوسيط الاوروبي في اوكرانيا، الالماني الجنسية إيشينغر، أدلى بتصريح أيد فيه توسيع الحملة العسكرية للجيش الاوكراني ضد المقاطعات الشرقية والجنوبية. وقد وصفت وزارة الخارجية الروسية تصريحاته بأنها مشينة.

الاتجاه لتشكيل جيش شعبي للمقاومة

وفي هذا الوقت بدأت قوات الدفاع الشعبي الذاتي في المناطق المنتفضة تنظم نفسها بشكل افضل، وأعلن عن بداية تحويل هذه القوات الى "جيش وطني"، وبدأ عشرات الاف المتطوعين ينضمون الى صفوف المقاومة الشعبية والانخراط في الجيش الجديد. وقد انعكس ذلك ميدانيا في دحر جميع الهجمات، وتم اسقاط خمس طائرات مروحية حتى الان، سقط فيها عشرات القتلى بينهم جنرال اوكراني. كما اعترفت قيادة الجيش الاوكراني وقيادة "الحرس الوطني" (التابع للشرطة) بسقوط عشرات القتلى ايضا في صفوف كل منهما. وتستعد قوات الدفاع الذاتي الشعبي لشن هجمات مضادة ردا على القصف المدفعي البعيد. وستقوم جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي بارسال المتطوعين المدربين والاسلحة النوعية الى المقاومة الشعبية في المناطق المنتفضة.

والسؤال الملح الآن هو: الى اين ستتجه اوكرانيا؟

طبعا ليس من السهل على اي طرف كان الاجابة عن هذا السؤال. ولكن في رأينا المتواضع، ولمحاولة فهم ما يجري في اوكرانيا، ينبغي الالتفات الى النقاط التالية:

1ـ ان اوكرانيا هي منقسمة بعمق على المستوى الثقافي ـ القومي. فـ"روسيا كييف" (او ما يسمى "كييف روس") هي اول دولة روسية، ومهد ظهور الدولة الروسية الموحدة ومن ثم الامة الروسية الموحدة، وفيها ايضا تم تعميد وتبني الديانة المسيحية على المذهب الارثوذكسي الشرقي، بدون الاتحاد مع بيزنطية.

ولكن الكتلة الاكبر للارض والامة الروسيتين كانت تمتد نحو الشرق والشمال. واحتلت اوكرانيا مركز "الطرف" في روسيا العظمى، ومن هنا جاء اسمها "اوكرائينيا" اي "الطرفية" او "الاطرافية". وبهذا الموقع كانت اوكرانيا تمثل جزءا من خط الدفاع الاول عن روسيا، لجهة الجنوب ـ الغربي. وكانت على الدوام ضحية للغزوات والاحتلال من جهة الجنوب والبحر الاسود، من قبل روما وبيزنطية والمغول والتتار والعثمانيين، ومن جهة الغرب والشمال، من قبل الجرمان والبولونيين والصليبيين الشماليين. وادى ذلك الى وجود تعددية اتنية وثقافية ودينية.

تياران للوطنية الاوكرانية

وتنقسم هذه التعددية الى تيارين وطنيين رئيسيين: تيار وطني روسي ـ ارثوذكسي، يرى ان المحتوى الحقيقي والهدف النهائي للوطنية الاوكرانية هو الانتماء الى روسيا ـ الارثوذكسية. وينتشر هذا التيار في الاخص في المقاطعات الشرقية والجنوبية لاوكرانيا، حيث غالبية السكان هم من الروس والناطقين باللغة الروسية والمنتمين الى المذهب الارثوذكسي دينيا. وتيار وطني اوكراني شوفيني يدير ظهره لروسيا، ويرى ان الوطنية الاوكرانية هي في الالتحاق بأوروبا الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية. ويمثل هذا التيار استمرارا تاريخيا للحقد الفاتيكاني القديم على روسيا والمسيحية الشرقية، وللحروب الصليبية الشمالية ضد روسيا في القرون الوسطى. وخلال الحرب العالمية الثانية برز من هذا التيار جناح فاشستي التحق بالقوات الهتلرية وحارب معها وارتكب المجازر ضد شعبه الخاص وضد الشعب البيلوروسي. وهذا التيار يريد جر اوكرانيا الى الانضمام الى حلف الناتو لتحويل اوكرانيا الى قاعدة نووية ضد روسيا، مغامرا تماما بوجود اوكرانيا على الخريطة. وبين هذين التيارين يوجد شبه تيار ثالث ـ وسطي ـ يحاول الجمع والتوفيق بين التيارين الرئيسيين وان يصنع منهما بلدا وشعبا موحدين، وكان آخر ممثل لهذا شبه التيار الوسطي الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي بلغ من "وسطيته" انه وافق على منع الشرطة من الدفاع عن نفسها حتى وهي تدافع عن البرلمان الذي اقتحمه الفاشست بالقوة. والنتيجة: اننا نرى الان كيف ان الحكومة الانقلابية الموالية للغرب تستخدم الجيش الاوكراني بدباباته ومدافعه وصواريخه وطائراته الحربية لقصف المدارس والمستشفيات والسكان الآمنين في الاقاليم الشرقية والجنوبية لمجرد انهم روس، وكأن الاوكراني ـ الروسي هو كائن محروم من ابسط حقوق الانسان.

الرأسمالية اللصوصية حليفة الغرب

2ـ ان الطبقة الرأسمالية التي تقود الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد (وبصرف النظر عن الانتماءات الاتنية والدينية لافرادها) هي طبقة مستحدثة وحديثة النعمة جمعت ثروتها الاولية من اللصوصية والفساد والرشى ونهب القطاع العام السابق، وقد بلغ الامر حد السرقة المكشوفة للغاز الروسي الذي يمر ترانزيت في اوكرانيا الى البلدان الاوروبية الاخرى. ومن ابرز ممثلي هذه الطبقة الملياردير رينات احمدوف (التتاري الاصل) في الشرق، والرئيس المنتخب الحالي بيوتر بوروتشينكو في الغرب. وهذه الطبقة، وبصرف النظر عن حجم ثرواتها، وبسبب صفتها الاساسية الطفيلية كانت وما زالت غير قادرة على خلق هيكل اقتصادي متماسك للدولة، بل على العكس فهي جعلت الدولة دولة مخلعة المفاصل، منهوبة، تنوء تحت الديون الداخلية والخارجية. ولولا الدعم الاقتصادي المتواصل والضخم الذي تقدمه روسيا لاوكرانيا لانهارت تماما منذ سنوات. والطبقة الرأسمالية المتنفذة في اوكرانيا تعمل لجر اوكرانيا ووضعها تحت النفوذ الغربي، من اجل التهرب من تقديم الحساب على لصوصيتها وجرائمها بحق الشعب الاوكراني، والاحتفاظ بالسلطة.

القلعة الروسية تدعم الشقيقة الصغرى

3ـ لقد استرجعت روسيا حقها التاريخي في شبه جزيرة القرم، وبناءً على ارادة شعبها بالذات. وفيما عدا ذلك فإن روسيا لا تريد تقسيم واضعاف الدولة الاوكرانية، باعتبار انها دولة شقيقة يجمعها مع روسيا تاريخ مشترك وثيق. وتقدم روسيا لاوكرانيا مساعدات وتسهيلات اقتصادية ومالية كبرى، وهي تعمل على حمايتها من الغزو الغربي. وتستخدم روسيا نفوذها لدى قطاع واسع من الشعب الاوكراني، وبالاخص الاوكرانيين الروس والناطقين باللغة الروسية، من اجل المحافظة على وحدة البلاد وسيادتها وحمايتها من الوقوع في براثن الناتو. ولكن مهما جرى، فإن روسيا لن تسمح بأي حال من الاحوال بتحويل اوكرانيا الى قاعدة للناتو، لان هذا يعني ان تضع روسيا اوكرانيا على لائحة الشطب من الخارطة تماما، وهذا ما يصعب التفكير به من قبل اي مواطن واي مسؤول روسي، نظرا لعاطفة الاخوة الخاصة التي تربط روسيا واوكرانيا.

اميركا عدوة كل الشعوب

4ـ ان مراكز القرار ودوائر الاستخبارات الاميركية، تعمل المستحيل لجر اوكرانيا الى الانضمام لحلف الناتو وتحويلها الى قاعدة نووية معادية لروسيا، ولو كان ذلك سيتم عبر توريط اوكرانيا في حرب اهلية دامية، وتقسيمها، والسيطرة الغربية ـ الناتوية على جزء من اوكرانيا فقط يكون خاضغا للغرب وبالامكان ضمه الى الناتو. وفيما دون ذلك، فإن المراجع الاميركية، اخذا في الاعتبار فشل اميركا في افغانستان والعراق واضطرارها لسحب قواتها من هذين البلدين، وخصوصا فشل المخطط الاميركي للسيطرة الاميركية ـ الداعشية الكاملة والمباشرة على سوريا، فإنها ـ اي المراجع الاميركية ـ تخشى ان تستفيد روسيا من هذا التهافت الاميركي لتنشيط سياستها في الشرق الاوسط والعالم، ولهذا فهي تعمل على فتح جرح نازف في الخاصرة الروسية، لالهاء روسيا واضعافها. ونظرا لموقع اوكرانيا الاستراتيجي كموقع عبور للغاز الروسي الى اوروبا، فإن المراجع الاميركية تخشى تحقيق اي اتفاق تسوية للاطراف المتنازعة في اوكرانيا، لان الاتفاق داخل اوكرانيا يعني ايضا الاتفاق الروسي ـ الاوروبي الغربي، والسياسة الاميركية تبذل كل ما بوسعها لمنع التقارب الروسي/الصيني ـ الاوروبي، لانها تعتبر ان مثل هذا التقارب سيكون حتما على حساب العلاقات الاميركية بأوروبا وروسيا والصين، وسيؤدي الى عزلة اميركا اكثر فأكثر.

اوكرانيا

تظاهرة في أوكرانيا

التخاذل الاوروبي

5ـ ان اوروبا الغربية تمتلك نفوذا رئيسيا واوراقا اقتصادية وسياسية كثيرة في اوكرانيا؛ فباستثناء المجموعات الفاشستية المفضوحة الملطخة اياديها بدماء الاوكرانيين، وهي المجموعات السائرة كليا مع المخابرات الاميركية وتأتمر بأوامرها، فإن جميع القوى والاحزاب الليبيرالية المعادية لروسيا والمؤيدة للغرب، والكنيسة الكاثوليكية، وكل طبقة الفساد والرشوة والاثراء غير المشروع والصفقات المشبوهة ونهب القطاع العام واللصوص الكبار ومن يمثلهم في المجتمع ومؤسسات الدولة، جميعهم بلا استثناء هم بالدرجة الاولى مع بولونيا والاتحاد الاوروبي واوروبا الغربية. وفي الانتخابات التي جرت في 25 ايار، وكانت انتخابات مزدوجة لانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس بلدية مدينة كييف، فاز "الاوروبيان" بيوتر بوروتشينكو برئاسة الجمهورية وبطل الملاكمة العالمي فيتالي كليتشكو برئاسة بلدية كييف. ومع ذلك فإن اوروبا الغربية لا تستخدم اوراق القوة لديها من اجل ايجاد حل سياسي للازمة الاوكرانية، بما يحفظ المصالح القومية للشعب الاوكراني ويحميه من الانزلاق الى حرب اهلية مدمرة، ويحفظ في الوقت ذاته مصالح اوروبا الغربية ذاتها التي تتجسد في التفاهم والتعاون مع روسيا، وتحويل اوكرانيا الى جسر تواصل بين اوروبا وروسيا وليس الى حقل نزاع. وعلى العكس من كل منطق عقلاني، تسير السياسة الاوروبية، كتابع للسياسة الاستفزازية والتدميرية الاميركية، التي لا يهمها لا مصير اوكرانيا، ولا مصير اوروبا كلها، ودعنا من روسيا. وحسب بعض المعلقين فإن اوروبا تتصرف كصندوق قاذورات للسياسة التدميرية الاميركية. بحيث يقوم اتباعها الاوكرانيون بتنفيذ كل ما تريده المخابرات الاميركية. ولكن على الضد من ذلك فإن بعض المراقبين الآخرين يرون ان اوروبا انما "تتذاكى"، إذ يقوم اتباعها الاوكرانيون بـ"المزايدة" على المجموعات الفاشستية ذاتها في المواقف المتطرفة ضد المقاطعات الشرقية والجنوبية المنتفضة، وذلك من اجل دفع المجموعات الفاشية والاجهزة الاميركية التي تقف خلفها الى الوراء وانتزاع زمام المبادرة العسكرية والسياسية منها، بحيث ينحصر قرار الحرب والسلم في ايدي القوى الاوكرانية "الاوروبية"، وحينذاك ستعمد هذه القوى الى فتح الحوار مع ممثلي المقاطعات الشرقية والجنوبية المنتفضة برعاية اوروبية ـ روسية مشتركة، مع او بدون اميركا. واذا تعذر حصول ذلك في وقت قريب، فإن "الاوروبيين" الاوكرانيين، ولا سيما بعد ان فازوا برئاسة الجمهورية ورئاسة بلدية كييف، سيضغطون على البرلمان والحكومة الحالية لاجل تعيين موعد قريب لانتخابات نيابية جديدة، وهم واثقون ان التيار "الاوروبي" في المقاطعات الاوكرانية الوسطى والغربية سيفوز بالاكثرية في البرلمان العتيد، من ثم سيستطيع تشكيل حكومة موالية لاوروبا تستبعد منها العناصر الفاشستية والراديكالية، التي تشارك الان في الحكومة الحالية ولها الكلمة الاولى فيها.

يتبين لنا مما تقدم ان اوكرانيا تقف على عتبة مصير مجهول تظلله على الارجح الغيوم السوداء. وأن تجنب هذا المصير يتوقف الى حد كبير على أمرين:

اولا ـ صلابة الموقف الروسي الى جانب الشعب الاوكراني الشقيق وضد المؤامرات الاميركية.

ثانيا ـ مدى استقلالية موقف اوروبا، وعدم تخاذلها امام السيد الاميركي.