المقاومة معادلٌ موضوعيٌّ لردع العدوان
د. حسن أحمد حسن
تنكمش الحروف وتبهت الكلمات والمعاني عندما تقترب من محراب المقاومة، فلا الأدب ـ نثراً كان أم شعراً ـ بقادر على أن يدنو من أسوار قلعتها الشامخة ومجدها الباسق، ولا التحليلات السياسية والدراسات الاستراتيجية تستطيع تقديم الصورة الموضوعية التي تفي المقاومة بعض حقها، وأمام الواقع الجديد الذي فرضته المقاومة كمافئ وحيد ورادع لعنجهية أصحاب الرؤوس الحامية يقف الكتاب والباحثون حيارى إزاء النبع الفوار و الضخ المتجدد واللامتناهي من الدروس والعبر التي تقدمها المقاومة والمقاومون الذين ما عرفت البشرية لولاهم صرخة مظلوم في وجه ظالم، فمن المسلم به أن قوى العدوان والاحتلال ما كان لها أن تصبح محتلة لأراضي الآخرين وحقوقهم لولا الخلل الكبير في موازين القوى التقليدية التي تمكِّن المعتدي من تنفيذ عدوانه وتهديد المصالح الحيوية للشعوب والدول التي تجتاحها جحافله، فتزداد الدول المعتدية قوة، وتزداد الدول والمجتمعات التي يُعْتَدَى عليها ضعفاً إلى أن يبزغ فجر المقاومة التي تتمكن من نسف المعادلات التقليدية للقوة وعواملها، وإرساء أسس جديدة عنوانها الأبرز قوة الإرادة الكفيلة بإثبات الوجود وبلور الهوية ومقومات الانتماء كقوة خلاقة تختزن في طياتها عوامل الانتصار، وهذا يقودنا إلى التوقف عند مجموعة من النقاط التي لا يجوز إغفالها، ومنها:
1- المقاومة في كل زمان ومكان رد فعل مشروع على فعل غير مشروع، أي أنها نتيجة وليست سبباً، واستمراريتها مرهونة بزوال الأسباب التي أدت لولادتها وانطلاقتها المشروعة والشرعية لإعادة ما اغتصب من أرض وحقوق خارج إطار كل شريعة وقانون وعرف إنساني.
2- المقاومة حالة طبيعية وضرورة موضوعية لا تنتظر الأذن من أحد لتظهر وتضطلع بدورها المطلوب في إرغام من يحتكمون للغة القوة على إعادة حساباتهم أكثر من مرة عند التفكير باغتصاب أراضي الآخرين وحقوقهم، انطلاقاً من أن قوة الإرادة أقوى وأصلب وأمنع من إرادة القوة بعشرات الأضعاف.
3- تنشأ المقاومات وتتطور عادة في الأماكن التي يغيب فيها دور الدولة أو يضمحل، كما هو الحال في الدول التي تكون عاجزة عن الوقوف في وجه الاجتياح الخارجي، وهنا يكمن تفرد المقاومة وسر فاعليتها واتساع قاعدتها الشعبية عمودياً وأفقياً للتعويض عن حالة الضعف التي تعاني منها هذه الدولة أو تلك، وهذا يذكرنا بالقاعدة المقيتة التي كانت تحكم لبنان قبل ولادة مقاومته الميمونة، حيث كان يتبجح من اعتادوا الانبطاح والذلة والاستسلام بالقول: ” قوة لبنان في ضعفه” فهل هناك منطق عقلي في الكون يقبل مثل هذا المنطق العقيم والتناقض الصارخ؟ فالضعف لا يمكن أن يولد إلا مزيداً من الضعف، ومزيداً من تنامي أطماع من يستلذون بقهر الضعفاء والمستضعفين، وكل ماله علاقة بالعطف والشفقة محذوف من قاموس السياسة الدولية، فأية قوة تلك التي يمكن أن يختزنها ضعف الدول؟ وأية استراتيجية عرجاء تلك التي تبني على عوامل الضعف أوهاماً لتحصين الدول من أطماع من يتلذذون بآلام الآخرين، ويبنون أمجادهم على ما يستلبونه من حقوق الدول المستضعفة عبر التاريخ؟ ومتى كان المحتلون يحتكمون إلى منطق الحق والعدل والإنسانية؟؟
4 - فاتورة إغضاب المستعمر وقوى الاحتلال ـ مهما ارتفعت ـ تبقى أقل بكثير من فاتورة إرضاء من لا يرضيهم إلا إزالة كل من يقول لهم لا من الوجود، وأشد ما يرهق تلك القوى أن تجد من يقول لها: لا، في الوقت الذي يتسابق فيه الكثير من الضحايا للحصول على بركة الجلاد ورضاه الذي يعني أمراً واحداً وهو الإذعان لساطور الذبح وتقطيع الأوصال والتمثيل بجثث الضحايا العاجزين عن اجتراح الحلول المطلوبة في مواجهة المعادلات الخشبية التي يراد من تسويقها التأثير على المعادلات الذهبية والألماسية التي تختزنها المقاومة وتبلورها حقائق ناطقة على أرض الواقع المتناقض بالضرورة مع نهج التبعية والخضوع والاستسلام الذي لا يورث إلا المزيد من التهميش والتلاشي في زحمة الأحداث وتطوراتها الضاغطة التي تفرض على المشغلين التخلي عن أصحاب الأدوار الوظيفية الفاشلين في تنفيذ ما أوكل إليهم من مهام تستهدف المقاومة نهجاً وسلوكاً.
5- اشتداد عود المقاومة وتعاظم شأنها مرهون بتوافر قاعدة شعبية تحتضنها وتتبنى طروحاتها، وتكون مستعدة لدفع ضريبة هذا الخيار، وفي الوقت نفسه فإن أشد الأخطار التي تواجه المقاومات الوطنية يكمن في وجود المتآمرين والخونة الذين يرضون أن يكونوا مدية بيد أعداء الوطن لطعن المقاومة في الظهر، وغالباً ما تلجأ قوى الاحتلال والهيمنة إلى دعم ضعاف النفوس ممن لم تتجذر عوامل الانتماء الوطني لديهم كما يجب، وإمدادهم بكل ما يلزم لخلق حالة مجتمعية عنوانها الانقسام الشعبي على خيار المقاومة، وعند اشتداد الانقسام واتساع الشرخ يستغل من يشغل الخونة والمأجورين الواقع الجديد ويوجه ضربته القاتلة تحت عناوين مختلفة لزيادة الانقسام وتحقيق ما عجز عن إنجازه بشكل مباشر عبر تهيئة الأجواء والبيئات المطلوبة لتمكين الطابور الخامس من الوصول إلى سدة الحكم في هذه الدولة أو تلك لاستهداف المقاومة والمقاومين.
من كل ما تقدم ـ وانطلاقاً من الإنجازات النوعية للمقاومة اللبنانية التي استطاعت إذلال جنرالات الكيان الصهيوني وتمريغ وجوههم بالأوحال وبلورة نصر ناجز عجزت عن تحقيقه جيوش الدول العربية عبر التاريخ الطويل للصراع العربي الصهيوني المزمن ـ يجد الباحث الموضوعي نفسه ملزماً بتسليط الضوء على بعض الصفحات المشرقة التي أضافتها المقاومة لسفر السيادة والكرامة والعزة والشموخ والعنفوان، وتداعيات ذلك على الأحداث وتطوراتها بشكل يتجاوز الجغرافيا الخاصة بهذه الدولة أو تلك، ويمتد إلى أمداء جغرافية إقليمية ودولية ، وهنا يطل النصر الاستراتيجي الذي أبدعته المقاومة اللبنانية مرغمة الجيش الذي قيل أنه لا يقهر على التقهقر مدحوراً مذلولاً من الجنوب اللبناني في الخامس والعشرين من أيار عام /2000م./ ولعل من أهم معالم هذا النصر ما تجسد في مراكمة عوامل القوة الذاتية ومتابعة تطوير القدرات النوعية لحزب الله بكفاءة عالية أثمرت نصراً إلهياً في عام / 2006م./ وما تلا تلك الأيام من محطات فخر ومجد عنوانها ما قاله سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله ـ أيده الله ـ ” ولى زمن الهزائم وأتى زمن الانتصارات”، وهذا ما أصاب أعداء الإنسانية بالصداع وأحياناً بالصرع الذي يفرزه العجز عن الوقوف في وجه تيار المقاومة وانتصاراته المتلاحقة على الرغم من التآمر شبه الكوني على أقطابه تحت عناوين براقة، حيث تم تسويق مصطلح "الربيع العربي” وهذا كلام باطل يراد به باطل، فما حدث على أرض الواقع هو صقع عربي وتصحر عربي وربيع صهيوني صرف خلف الدمار والخراب والبؤس والتشرد والقتل وسفك الدماء وكل ما من شأنه تفتيت المنطقة برمتها خدمة لمصالح الكيان الصهيوني ومن يدور في الفلك الأمريكي المأزوم والمهزوم بآن معاً، وهنا لابد من التذكير والإشادة بالموقف الخلاق والبناء الذي اتخذه حزب الله المقاوم بالوقوف مع واسطة عقد المقاومة ومنع حملة الفكر التكفيري الظلامي من نفث سمومهم في الجسد السوري الذي أثبت مناعة وصلابة ازدادت فاعليتها بوقوف بقية أقطاب المقاومة مع دمشق الصامدة، وهذا ما سحب البساط من تحت أرجل أطراف التآمر والعدوان المتخبطين بسياساتهم العرجاء وتصريحاتهم الجوفاء ومواقفهم الخرقاء التي تؤكد أنهم يعيشون أزمة مركبة تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم بفضل الإنجازات النوعية التي يحققها الجيش العربي السوري، وبفضل الوعي المتنامي لدى الشعب السوري الذي فوت على الأعداء فرصة الفتنة والانقسام، ووقف بغالبيته مع دولته للدفاع عن مقومات السيادة والكرامة، وها هو اليوم يقترب أكثر فأكثر من تتويج الانتصارات الميدانية وتحصينها عبر الانتخابات الرئاسية التي ستوجه الصفعة الأشد لكل أطراف التآمر والعدوان وتهيئ البيئة الاستراتيجية المطلوبة لإعلان انتصار المشروع المقاوم على المشروع الصهيو ـ أمريكي المترنح تحت وقع الضربات المتتالية التي يتلقاها تباعاً من المقاومين ومن يدعمهم في جميع ساحات المواجهة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، وقد غدا من المسلم به أن المقاومة هي المعادل الموضوعي الأنجع والأقدر على إعادة ترتيب أوضاع المنطقة وولادة الشرق الأوسط المتجدد وفق إرادة أبنائه لا وفق إرادة أعداء الإنسانية.