ماذا بعد العودة الأميركية المحتملة إلى الاتفاق النووي؟
حسن نافعة
التزام واشنطن بالاتفاق النووي، ولو لفترة قصيرة لا تتجاوز عامين، لن يؤدي إلى تخفيف عبء العقوبات عن إيران فحسب، إنما سيضاعف الثمن الذي سيتعين على واشنطن دفعه إذا قررت الانسحاب منه مجدداً.
دخلت المفاوضات المتعلقة ببحث كيفية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي، المعروف رسمياً باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA"، مرحلة حاسمة عقب إقدام مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على محاولة أخيرة لإنقاذها.
وفي مقال نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" يوم 24 تموز/يوليو الماضي، كتب بوريل مؤكداً أن "الحلول الوسط الإضافية ذات المغزى استنفدت"، وأنه أخذ على عاتقه كتابة نص لمسودة اتفاق نهائي "يتضمن سرداً تفصيلياً لكيفية رفع العقوبات، وسرداً تفصيلياً للخطوات المتعلقة بالمسائل النووية اللازمة لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة".
وبعد الإفصاح عن قناعته بأنه نص "يتضمن تنازلات تم الحصول عليها بشق الأنفس من جميع الأطراف"، اعتبره نهائياً، وأنه لم يعد أمام جميع الأطراف المعنية سوى قبوله أو رفضه، وأنه ليس مطروحاً للتفاوض، إنما للتوقيع.
ورغم أن إيران، التي تسلمت النص رسمياً، لكنها اعتبرته قابلاً للأخذ والرد والتعليق، قامت بالرد عليه كتابة، مطالبة بإيضاحات إضافية مكتوبة، وأن هذا الرد تم تسليمه للجانب الأميركي للدراسة والتعليق، فإن التصريحات الصادرة عن مصادر قريبة من الأوساط الرسمية لمختلف الأطراف المعنية، بما فيها المصادر الإيرانية، تشير إلى التغلب بالفعل على معظم العقبات الرئيسية، وأن ما تبقى منها لم يعد مستعصياً على الحل.
لذا، يرجح معظم المراقبين أن يتم التوقيع على اتفاق العودة الأميركية خلال أيام أو أسابيع قليلة على أكثر تقدير.
صحيح أن الحذر مطلوب في مثل هذه الحالات، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بمفاوضات على درجة كبيرة من الحساسية والتعقيد، لأن احتمال وقوع مفاجآت غير متوقعة في اللحظة الأخيرة يظل أمراً وارداً في جميع الأحوال، غير أن مؤشرات عديدة تؤكد أن المتفاوضين المرهقين اقتربوا بالفعل من خط النهاية، وأن كل الأطراف المعنية أصبح لديها قناعة بأن إطالة أمد المفاوضات أكثر لم يعد أمراً محتملاً أو مفيداً، ولم يعد أحد منها في وضع يسمح له بتحمل مسؤولية فشلها، لأنه يعني بداية التدحرج نحو ساحة الحرب.
لا شكّ في أن التوقيع على اتفاق جديد يسمح بعودة الولايات المتحدة إلى الالتزام باتفاق 2015، إن تم، سيشكل نقطة تحول في مسار التفاعلات المتعلقة بمجمل أزمات منطقة الشرق الأوسط، وليس من المستبعد أن تمتد تأثيراته إلى مجمل التفاعلات المتعلقة بأزمات النظام الدولي ككل.
إن الولايات المتحدة لها مصلحة واضحة في هذا الاتفاق، وترى فيه الوسيلة الوحيدة لمنع إيران من تصنيع سلاح نووي، أو على الأقل تأخير قدرتها الفنية على تصنيع هذا النوع من الأسلحة إلى أطول فترة ممكنة.
وسيسمح الاتفاق في الوقت نفسه بدخول إيران من جديد كلاعب في الساحة النفطية، ما سيساعد كثيراً على زيادة الكميات المطروحة من النفط والغاز، ومن ثم الإسهام في زيادة فاعلية العقوبات المفروضة على روسيا الاتحادية بسبب حربها على أوكرانيا.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن رفع العقوبات عن إيران قد يساعد تدريجياً على تحويل نمط العلاقات الأميركية الإيرانية من النمط الصراعي إلى النمط التعاوني، وبالتالي على إضعاف التحالف القائم حالياً بين إيران وكل من الصين وروسيا الاتحادية خلال المدى المنظور، لَتَبيَّن لنا بوضوح أن الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها من وراء العودة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي ليست مجرد أهداف تكتيكية أو قصيرة المدى، إنما هي استراتيجية بعيدة المدى في الوقت نفسه.
وفيما يتعلق بإيران، فهي ترى أنَّ العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي يحقق لها هدفاً أساسياً، هو رفع العقوبات التي أثقلت كاهلها، ما سيمكّن النظام الحاكم فيها من تحسين أحوال مواطنيه المعيشية من ناحية، ومن ثم تخفيف حدة الضغوطات الداخلية الواقعة على عاتقه، كما سيمكّنه، من ناحية أخرى، من تطوير قدراته الذاتية على مختلف المستويات، وخصوصاً الاقتصادية والعسكرية، ما سيسمح له بزيادة الدعم المقدم لحلفائه، سواء في المنطقة أو العالم، ويسهم بالتالي في زيادة مكانة إيران على الصعيدين العالمي والإقليمي، ولكن يتعيَّن الانتباه إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن مجرد التوقيع على هذا الاتفاق لن يكون نهاية المطاف، ولن يؤدي إلى حل كل المشكلات، وخصوصاً أنه سيواجه بنوعين من التحديات:
الأول: تحديات تتعلق بتفسيره وبآليات تنفيذه. صحيح أن إيران بدت خلال مسيرة المفاوضات الطويلة، وخصوصاً خلال الجولة الأخيرة منها، شديدة الحرص على أن يأتي الاتفاق المزمع إبرامه تفصيلياً وواضحاً، ولا يحتمل أي لبس، وعلى الأرجح أنَّها لن تخاطر بالتوقيع على أيّ اتفاق قبل أن يكون مستوفياً كل الشروط التي طرحتها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالدقة والوضوح وعدم القابلية لتباين الاجتهادات في التفسير، ولكن ليس من المستبعد، رغم ذلك، أن تؤدي الطبيعة المركبة لهذا الاتفاق إلى تعقيدات عديدة قد تتسبّب بعرقلة تنفيذه، وخصوصاً أن الوضع الحالي يختلف تماماً عن الوضع الذي كان سائداً عند انسحاب ترامب عام 2018 من الاتفاق الأصلي الموقع عام 2015.
بعد هذا الانسحاب، أقدم ترامب على فرض عقوبات كثيرة وقاسية على إيران، بل إنَّ بعض العقوبات السارية حالياً تم فرضها في عهد بايدن نفسه. وإذا تم التوقيع على اتفاق جديد، فسيتعين على الولايات المتحدة، أولاً وقبل كل شيء، رفع جميع هذه العقوبات.
ولأن الولايات المتحدة تدّعي أن بعضها على الأقل لا علاقة له بالبرنامج النووي، وأنه فرض لأسباب أخرى لها علاقة بانتهاكات حقوق الإنسان أو بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وأنها لن تلزم نفسها، في حال التوصل إلى اتفاق، إلا برفع العقوبات ذات الصلة بالبرنامج النووي، فليس من المستبعد أن تثور خلافات عميقة عند التنفيذ، بصرف النظر عن درجة الوضوح والتفصيل في الاتفاق على ما ينبغي أو لا ينبغي رفعه من تلك العقوبات التي تعد بالآلاف.
على صعيد آخر، أقدمت إيران من ناحيتها، ولكن بعد مرور عام من الانسحاب الأميركي من الاتفاق، على التخفّف تدريجياً من التزاماتها بموجب الاتفاق الأصلي، ومن ثم قامت بزيادة أعداد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم ونوعيتها، ثم رفعت نسب تخصيبه تدريجياً، إلى أن وصلت إلى نسبة 60%، وبالتالي سيكون عليها بموجب الاتفاق الجديد أن تعود إلى النسبة الأصلية، وهي 3.67%، ما قد يثير مشاكل فنية عديدة، ويهدد سلاسة التنفيذ.
الثاني: تحديات تتعلق بالسلوك الإسرائيلي المتوقع. من المؤكد أن الاتفاق الجديد، أياً كان نصه النهائي، لن يلقى ترحيباً من عدد من القوى الإقليمية، وخصوصاً "إسرائيل" والسعودية وبعض دول الخليج الأخرى، ويتوقع أن تسعى هذه القوى لتخريبه إبان مرحلة التنفيذ، غير أن الموقف الإسرائيلي بالذات هو الأكثر أهمية في هذا السياق، وخصوصاً أنه الأكثر فاعلية من حيث قدرته على التأثير في الداخل الأميركي بكل مكوناته.
ومن المعروف أن "إسرائيل"، منذ عهد نتنياهو، وقفت بكل شراسة ضد الاتفاق الأصلي الموقع عام 2015، وما يزال موقفها كما هو تجاه أي اتفاق مماثل. وقد أعلنت مراراً وتكراراً، وعلى لسان أعلى المستويات السياسية والأمنية فيها، أنها ليست طرفاً في الاتفاق المزمع توقيعه، ولن تكون ملزمة به، وتعطي لنفسها كامل الحرية في اتخاذ ما تراه ضرورياً للدفاع عن أمنها ومصالحها.
ولأن "إسرائيل" ترى في إيران الدولة، وفي نظامها الحاكم، وليس فقط في سياساتهما الخارجية، تهديداً وجودياً ينبغي العمل لإزالته، فليس هناك شك في أنها ستحشد كل إمكانياتها، وخصوصاً عقب الانتخابات البرلمانية القادمة، أياً كان شكل الحكومة التي ستفرزها هذه الانتخابات، لعرقلة أي اتفاق يتم التوصل إليه وإفشاله.
ولا شك في أن أي حكومة إسرائيلية قادمة ستراهن بقوة على انتخابات التجديد النصفي القادمة للكونغرس، وستأمل أن تفرز أغلبية جمهورية كي تتاح لها فرصة أفضل للانقضاض على الاتفاق الجديد.
تدرك إيران جيداً أنه لن يكون بمقدور أحد ضمان عدم انسحاب الولايات المتحدة مجدداً من أي اتفاق يتم إبرامه، وخصوصاً إذا فاز رئيس جمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية المزمع عقدها في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وإذا كان اسم الفائز فيها دونالد ترامب تحديداً!
معنى ذلك أن الفترة الزمنية المتاحة لضمان الالتزام الفعلي للولايات المتحدة بالاتفاق الجديد لن تزيد على عامين، وهي الفترة المتبقية لبايدن من ولايته الأولى في البيت الأبيض، بل إن قدرة بايدن نفسه على الوفاء بالتزاماته الناجمة عن الاتفاق تتوقف على مدى نجاح حزبه بالاحتفاظ بأغلبيته الراهنة في الكونغرس بمجلسيه.
لذا، يتوقع أن يكون سلوك إيران شديد الحذر وشديد الحرص، لضمان أن يأتي الاتفاق الجديد متوافقاً مع مصالحها ومبدداً لمعظم مخاوفها. ومع ذلك، أعتقد أنها لن ترفض التوقيع عليه حين تصبح صياغته مقبولة، فهي، من ناحية، لا تريد أن تتحمل مسؤولية فشل المفاوضات الجارية حالياً، كما أنها تدرك، من ناحية أخرى، أن التزام الولايات المتحدة بالاتفاق، ولو لفترة قصيرة لا تتجاوز عامين، لن يؤدي إلى تخفيف عبء العقوبات عنها فحسب، إنما سيضاعف في الوقت نفسه أيضاً الثمن الذي سيتعين على الولايات المتحدة دفعه إذا قررت الانسحاب من الاتفاق مجدداً!