الأمن الأوروبي في خطر؟
ليلى نقولا
لم تعرف أوروبا أزمة عميقة ومتشعبة وخطرة على الأمن الأوروبي ككل، كما هي أزمة قطع العلاقات بروسيا التي يسير فيها الاتحاد الأوروبي اليوم.
ينشغل الأوروبيون منذ شباط/ فبراير الماضي بأزمات متعددة ومتلاحقة، ترتبط بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والقلق من توقف إمدادات الطاقة بسبب العقوبات الأوروبية على روسيا، بالإضافة إلى التضخم والركود الاقتصادي والهجرة، وموجة اللجوء التي سببتها تلك الحرب.
ولكي تضاف إلى أزمات الأوروبيين أزمة إضافية، كانت موجة الحر والجفاف التي ضربت أوروبا هذا الصيف مشكلة إضافية ستسهم في صعوبة تأمين الكهرباء في الشتاء القادم.
منذ التسعينيات، أي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وبعدها انفجار يوغسلافيا وتفككها، ثم قيام الأوروبيين بتوقيع معاهدة "ماستريخت" التي حققت لأوروبا النهوض بمشروع التكامل والاندماج الاقتصادي والسياسي وفتح الحدود... منذ ذلك الحين، لم تعرف أوروبا أزمة عميقة ومتشعبة وخطرة على الأمن الأوروبي ككل، كما هي أزمة قطع العلاقات بروسيا التي يسير فيها الاتحاد الأوروبي اليوم.
من حيث المبدأ، يعني الأمن التحرر كلياً من التهديدات. تاريخياً، كان مصطلح الأمن مساوياً للبعد العسكري، فكان يعني غياب الحرب أو الصراع العنفي. لكن القرن العشرين شهد توسعاً في المفهوم ليشمل قضايا أمنية أخرى مثل تلك المتعلقة بالاقتصاد أو البيئة أو التحديات الاجتماعية وغيرها.
وبحسب مستويات التهديدات المختلفة، يمكن تحديد مستويات عدّة من الخطر على الأمن الأوروبي، وهي كالتالي:
1-الأمن العسكري:
يعبّر الأمن العسكري عن قدرة الدول الأوروبية على تنفيذ سياساتها والدفاع عن نفسها عبر الوسائل العسكرية، وهذا متحقق بقوة بسبب وجود حلف "الناتو" والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في دول أوروبا، في حال تعرضت لتهديد عسكري.
2-أمن الطاقة
بالإضافة إلى القلق من توقف تدفقات الغاز الروسي التي ستؤدي إلى ارتفاع فواتير الطاقة، والحاجة إلى ترشيد استهلاك الكهرباء في الشتاء، أضرّت موجة الحرارة والجفاف الأخيرة بأنظمة الطاقة في أوروبا بشكل كبير.
أدى انخفاض مستويات الأنهار والبحيرات إلى تجفيف منابع محطات الطاقة الكهرومائية وانخفاض قدرتها الإنتاجية، وبالفعل انخفض إنتاج الطاقة الكهرومائية في دول أوروبا الغربية بنسبة 20% في الربع الثاني من هذا العام مقارنة بالمعدل السنوي العام، وكشفت دراسات رسمية أن خزانات المياه في فرنسا وإسبانيا كانت عند أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقدين في تموز/يوليو الماضي.
كما يعطل الجفاف وندرة المياه أنظمة تبريد المحطات النووية التي تنتج الكهرباء، ما يعني مزيداً من الحاجة إلى توليد الكهرباء عبر استعمال الغاز الطبيعي، ففي سويسرا -على سبيل المثال- اضطرت إحدى المحطات النووية الثلاث في البلاد إلى خفض إنتاجها، الشهر الماضي، بسبب الحرارة المرتفعة، وتقلّص منسوب المياه.
ولتكتمل حلقة الأزمات، أعلنت النرويج أنها ستقلص صادرات الطاقة إلى أوروبا، وذلك للحدّ من ارتفاع أسعار الطاقة في الداخل، ولإعطاء الأولوية لملء الخزانات الجافة، وتأمين المخزون الاستراتيجي الذي تحتاجه النرويج لتحقيق أمن الطاقة، بدلاً من توليد الكهرباء.
3-الأمن الغذائي:
لقد سببت الحرارة المرتفعة والحرائق التي رافقتها مشاكل عديدة لإنتاج الغذاء في أوروبا. أعلنت النمسا عن نفوق مئات الأسماك بسبب الحرارة المرتفعة في بحيرة زيكسي، بالإضافة إلى الإضراب والتظاهرات التي يقوم بها المزارعون اعتراضاً على السياسات الحكومية التي تهدف إلى تخفيف الانبعاثات، والتي يقولون إنها ستقلّص إنتاجهم الزراعي والحيواني بشكل كبير.
في تموز/يوليو، توقّع مركز البحوث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية، انخفاض محصول الذرة ودوار الشمس وفول الصويا بنسبة 8-9%، بسبب الطقس الحار والجاف، بالإضافة إلى تقارير تشير إلى انخفاض محصول القمح الفرنسي بنسبة 30%، وتراجع محصول زيت الزيتون والنبيذ الأوروبي وسواهما من الإنتاج الزراعي والحيواني.
4-الأمن الاقتصادي:
لقد أدّى انخفاض منسوب المياه في الأنهار الرئيسية في أوروبا إلى مشكلة كبيرة للشركات التي تعتمد عليها لأغراض النقل والتبريد وسلاسل التوريد. فعلى سبيل المثال، أدى انخفاض منسوب المياه في نهر الراين، وهو شريان النقل الرئيسي بين سويسرا وألمانيا، إلى تقليص إمدادات الفحم لمحطتي كهرباء ألمانيتين، وسبّب مشاكل إضافية للصناعات الألمانية التي تعاني أكثر من غيرها من العقوبات الأوروبية على روسيا.
ولا شكّ أن الأمن الاقتصادي الأوروبي وقدرته على التكيّف، مرتبط أيضاً بقدرة القطاعات الإنتاجية الأوروبية على تحمّل التكاليف المرتفعة للطاقة، خاصة في الشتاء القادم. فمن ناحية أولى، إن سياسة رفع الفائدة سوف تقلّص فرص الاستثمار وتقلل الرغبة بالاستدانة، ومن ناحية أخرى، سيؤدي ارتفاع الأسعار إلى ضعف القدرة الشرائية للسكان، الأمر الذي سيدفع إلى تقليص الإنتاج، وبالتالي المساهمة في الركود.
لكن، بالرغم من التحديات الاقتصادية والمخاوف من الركود، يمكن أن يبقى الأمن الاقتصادي الأوروبي مستقراً نسبياً في المدى القصير، ولكن تبقى احتمالات القلق الاقتصادي موجودة بقوة، في حال لم تستطع الاقتصادات الأوروبية التكيّف مع المشاكل الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأوروبية على روسيا، ولم يتم السير بخطط اقتصادية تدفع باتجاه النمو الاقتصادي بعد فترة الركود المتوقعة.
في النتيجة، تشير التوقعات إلى شتاء قاسٍ يواجه أوروبا بشكل عام، والطبقة السياسية الحاكمة بشكل خاص، إذ إن ارتفاع كلفة المعيشة وأسعار الطاقة وتوقف النمو الاقتصادي، كلها عوامل ستؤدي إلى تزايد النقمة الشعبية، في دول يتهم مواطنوها حكامهم بأنهم محكومون من مجموعة من البيروقراطيين غير المنتخبين، الذين يقررون السياسات الأوروبية من بروجهم العاجية في بروكسل (مكاتب الاتحاد الأوروبي).