شدّ الأحزمة بين موسكو و"تل أبيب"
محمد جرادات
الانحياز الإسرائيلي إلى الغرب ضد روسيا، تعزّز في الميدان العسكري الأوكراني، عبر مئات المرتزقة الإسرائيليين المدعومين بخرائط عسكرية، وقد تبيّن خروجهم من كنف الجيش الإسرائيلي، الذي أعلن دعمه أوكرانيا بعتاد عسكري.
اصطدام بين دبابة وسيارة؛ هكذا وصف الجنرال في جيش الاحتلال، رونين ايتسيك، التوتر الحاصل بين موسكو و"تل أبيب"، على خلفية تصريحات رئيس حكومة الاحتلال، يائير لابيد، ضد الرئيس بوتين، بشأن العملية الروسية في أوكرانيا، وهو ما دفع الأخير إلى الامتناع عن استقبال الوفد الإسرائيلي الكبير الذي وصل إلى موسكو هذا الأربعاء، لمتابعة تبعات قرار وقف المنظمات اليهودية والإسرائيلية في روسيا، وخصوصاً الوكالة اليهودية للهجرة، والسعي الروسي لتصفيتها نهائياً، عبر القضاء الروسي.
لكن حادثاً فعلياً للتصادم وقع قبل أربع سنوات بين موسكو و"تل أبيب"، قضى فيه 15 جندياً روسياً، في سماء اللاذقية السورية، بسبب القصف الإسرائيلي، وإن بمضادات سورية، وهو ما حمّلت روسيا الكيان الإسرائيلي مسؤوليته المباشرة، وقد جاء بعد ستة أشهر على إسقاط طائرة (إف 16) إسرائيلية بمضادات سورية، ولعل ذلك ساعد حينذاك على تجاوز ما تصدّع في العلاقات بين البلدين، مع أن القصف الإسرائيلي يتواصل ضد حليف روسيا الأول في الشرق الأوسط، سوريا، من دون عواقب روسية فعلية، إلا ما جاء من تلميحاتٍ عقب قمة طهران الروسية التركية الإيرانية، عن نيّة روسيا تسليم سوريا منظومة (إس 400)، وما كشفه وزير حرب الاحتلال عن قصف بطارية روسية طائرات إسرائيلية في وقت سابق.
إن ربط الأحزمة، بين "إسرائيل" وروسيا اللتين تجمع بينهما علاقات تاريخية، يحمل تبعات حقيقية، خصوصاً إذا تدرّجت عملية شدّها، بما يشبه الفعل ورد الفعل، وسط ما تشهده موسكو من اندفاعات وتغييرات جوهرية في فضائها الاستراتيجي، على وقع العزف العسكري على الأرض الأوكرانية، والنجاحات الاقتصادية الروسية في مواجهة أضخم عقوبات غربية تفرض على
بلد في العالم، بما يفتح احتمالات واقعية لتصدّع حادّ بين موسكو و"تل أبيب"، في ظل اضطرار الأخيرة إلى الخروج عن سياسة القبض على العصا من الوسط، التي حاولها رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت، وهو ما يرجّح أن يكون له آثاره الميدانية في السماء السورية.
والمؤكد أن الانحياز الإسرائيلي إلى الغرب ضد روسيا، تعزز في الميدان العسكري الأوكراني، بمئات المرتزقة الإسرائيليين المدعومين بخرائط عسكرية، وقد تبيّن خروجهم من كنف الجيش الإسرائيلي، الذي أعلن دعمه أوكرانيا بعتاد عسكري، في وقت تعلن فيه أوكرانيا رؤيتها لنفسها كـ"إسرائيل كبيرة"، في حال انتصرت في الحرب، ولعل ذلك ما دفع روسيا إلى الكشف عن مقتل عدد من الإسرائيليين في أوكرانيا، بل والإشارة إلى أن هؤلاء الإسرائيليين يقاتلون خلف ميلشيات نازية بزعامة كتيبة آزوف، وهو ما تطور بقول وزير خارجية روسيا إن دماء هتلر تعود إلى أصول يهودية.
إن تأجيل موعد محاكمة الوكالة اليهودية حتى 19 آب/أغسطس، ربما يفتح احتمالاً لمقايضة "تل أبيب" بالتراجع عن اندفاعها خلف السياسة الأميركية في أوروبا، وهو اندفاع ذاتي في حقيقته، فالجميع بات يدرك أن خيوط اللعبة في أوكرانيا بقدر ما هي مرتبطة شخصياً بنجل بايدن؛ هنتر، بصفته لاعباً أساسياً في تحوّل أوكرانيا لتكون أداة أميركية في محاولة استنزاف روسيا وأوروبا، بقدر البعد الصهيوني للجوقة الحاكمة في أوكرانيا، زيلنسكي وحاشيته، والدور المنوط بهم لما سمّاه إسرائيل الكبرى، لذا فإن خيوط التناقض بين تل أبيب وموسكو، ستشتد أكثر مع كل اتساع للحرب في أوكرانيا، بما يفتح المجال لتناقضات أعمق تتجاوز النشاط اليهودي في روسيا، وقمة طهران واحدة من وجوه هذا الاتساع، وهو ما تسبّب بامتعاض إسرائيلي حادّ تجاهها.
ولا يخفى أن ذريعة موسكو ضد الوكالة اليهودية، باعتبارها تنتهك الحقوق الشخصية للمواطنين الروس، عبر جمعها معلومات عنهم لتشجيع اليهود منهم على الهجرة إلى فلسطين، بما يناقض التشريعات الدستورية الروسية، ليست إلا محاولة لليّ ذراع "تل أبيب" في الموضع الموجع لها، ولكن، هل يُفلح ذلك في تغيير اندفاعة مسار السياسة الإسرائيلية الموالية لأميركا في أوروبا، خصوصاً في ظل حكم لابيد؟
جاءت تصريحات الناطق باسم الرئاسة الروسية، محذرة من تسييس القضية، باعتبارها محض قضائية، ودعا إلى الفصل بينها وبين العلاقات الروسية الإسرائيلية، خصوصاً أن التحذير القضائي صدر في مطلع العام، أي قبل الحرب في أوكرانيا، بما يخلط أوراق اللعبة، وربما يعمّقها، باعتبار أن موسكو ماضية في مسعاها القضائي، وهو محق دستورياً، فكيف لدولة كالكيان العبري أن تتدخّل في مواطني دولة أخرى، وتدعوهم إلى هجر بلدهم تبعاً لانتمائهم الديني، للاستيطان في بلد آخر؟ خصوصاً أن أغلب من يهاجر إلى فلسطين في العقدين الماضيين، يستوطن في الضفة الغربية، في خطة معلنة لاستقدام 100 ألف يهودي أوكراني وروسي، وإسكانهم في الضفة الغربية، وخصوصاً في مستوطنتَي يتسهار ورفافاه.
وفعلاً استقدم 17 ألف روسي منهم، وهذا في حدّه الدولي الأدنى يناقض قوانين الاتحاد الأوروبي وربما الأميركي، باعتبار الضفة الغربية أرضاً محتلة بحسب القانون الدولي.
سيتحرّك كثيرون في روسيا والكيان العبري كذلك، وحتى في أوروبا وأميركا، وربما تحرك بعض الأعراب، لرأب الصدع بين موسكو و"تل أبيب"، فالأخطبوط القابض على خيوط الدولة العميقة عبر العالم، سيستنفر قواه لاحتواء التوتر الراهن ويبقيه في شكل خلاف عارض، ولكن، هناك اصطفافات آخذة في التبلور عبر الشرق والجنوب على امتداد العالم، وفي حال أخذت طريقها سياسياً واقتصادياً على نحو منهجيّ جوهريّ، فإن "تل أبيب" ستجد نفسها أمام معطى جديد، ربما يصعب احتواء تبعاته.