العمليّة العسكريّة التركيّة واتفاقيّة لوزان…
مصطفى أرشيد
في 24 تموز 1923 وقعت اتفاقية لوزان بين قوات مصطفى كمال وحكومة أنقرة من جانب والحلفاء ومعهم اليونان من جانب آخر، بموجب تلك الاتفاقية قامت الدولة التركية الحديثة ذات النظام الجمهوري العلماني الذي حلّ محلّ نظام السلطنة والخلافة الإسلامية، بعد معارك دامية خاضها الأتراك الجدد المتمركزون في أنقرة ضدّ قوات السلطان العثماني في الآستانة وجيوش الحلفاء .
مثلت اتفاقية لوزان الاتفاقية الأهمّ والأخطر بعد اتفاقية سايكس ـ بيكو التي سبقتها ومهّدت لها قبل ستّ سنوات، وكان من نتائجها إعادة رسم خرائط الأوطان المصطنعة وإقامة دول جديده وخلق هويات فرعية على حساب الهوية السابقة ـ العثمانية الإسلامية التي تنازلت تركيا عنها كأيديولوجيا ومعها بالطبع زعامة العالم الإسلامي، كان ذلك مقدّمة لتبنّي النهج العلماني والحداثة وفق النموذج الغربي وعلى حساب الهوية القومية الجامعة والصاعدة في وطننا .
بموجب اتفاقية لوزان انطوَت صفحة من أطول صفحات التاريخ عمراً فقد مثلت نهاية الدولة العثمانية التي استمرت بالحياة لستة قرون وشملت أراضيها ألبانيا واليونان في شمال المتوسط وشرق أوروبا وأرمينيا ومعظم العالم العربي بما فيها هلالنا الخصيب وهو المعني حصراً بهذه المقالة.
كانت تركيا قبل اتفاقية لوزان قد حصلت من فرنسا على أراضي شاسعة في الشمال السوري تقارب مساحتها عشرة أضعاف مساحة لبنان، من مرسين على ساحل المتوسط غرباً حتى شرق ديار بكر شاملة كيليكيا وماردين واورفة (مرعش) وغيرها، ولكن مصطفى كمال وحكومته كانوا يرون أنّ الأراضي الواقعة من شمال حميميم حالياً في الغرب الى الموصل في الشرق ومعها داهوك وأربيل وكركوك ونينوى والسليمانية وسنجار، جزء من أرضهم القوميّة التي اضطرت للتنازل عنها في مفاوضات لوزان الطويلة والصعبة مع كلّ من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان، وفي غياب أهل البلاد الشرعيين الذين انتدبت عليهم عصبة الأمم الانجليز والفرنسيين، والفرنسيون بدورهم وبضغط من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية خضعوا للابتزاز التركي، إذ مقابل عدم انضمام تركيا للمحور الألماني الإيطالي تمّ سلخ لواء إسكندرون عن سورية الأمّ وتقديمه رشوة للأتراك.
قرابة ثمانية عقود بين معاهدة لوزان ووصول حزب العدالة إلى الحكم وتركيا تحت حكم العسكر وانْ بوجه برلماني وتقاد بالعقيدة الأتاتوركية القائمة على قدمين، العلمانية والاستغراب، فتمّت محاصرة الدين الإسلامي وشبه حظره باعتباره عدواً للعقل وعقيدة رجعية، وتمّ استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني ومنعت كافه مظاهر الحياة الشرقية بما فيها الأزياء والعمائم والطرابيش التي استبدلت بالأزياء الأوروبية والقبعات، بهذا شملت العقيدة التركية الجديدة كافة مظاهر الحياة، أما في السياسة الخارجية فقد استمرّ لثمانية عقود السعي التركي للدخول في النادي الأوروبي دون نجاح، فيما اتسمت علاقات تركيا مع جوارها العربي وخاصة السوراقي بالمراوحة بين العداء والفتور .
كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002 الحدث الخطير والذي مثل انقلاباً على الأتاتوركية، وسرعان ما نشر مهندس السياسة الخارجية في حينه أحمد داوود اوغلو كتابه المهمّ: العمق الاستراتيجي، والذي رأى فيه انّ تركيا قد سئمت انتظار قبولها في المجموعة الأوروبية وانّ عليها ان تشرع ببناء سياسة جديده باتجاه الشرق عموماً مع عناية خاصة بالجوار السوراقي، لذلك استكمل نظرته الاستراتيجية بالإعلان عن سياسة صفر مشاكل، تحسّنت بفضل هذه السياسة العلاقات التركية مع دمشق، لا بل اتسمت بالحميمية والشراكة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة وانتهاء بالفن حيث أخذت دمشق تدبلج المسلسلات التلفزيونية التركية للعربية وللهجة الشامية، والتزمت تركيا بالمواقف المؤيدة لدمشق وبمعاداة (إسرائيل).
لكن سنة التغير أسرعت في عملها فتضخمت شخصية أردوغان ليتحوّل من القيادي المتواضع اللطيف والمثابر المثالي والحاكم الديمقراطي الى الحاكم الفرد او أبو الأتراك الثاني، وفي حين كان مصطفى كمال عسكرياً فجاً، أصبح أردوغان ميكافيلياً متقلباً، فاختلف مع مكوناته الداخلية ورفقاء دربه وأخرج من دائرة القرار من لا يطابقه الرأي مثل أحمد داوود اوغلو وعبد الله غول وفتح الله غولن وغيرهم، ثم ما لبث أن انقلب على السياسات المبكرة ليتبنّى سياسة 100% مشاكل .
لا ريب في انّ أردوغان صاحب شكيمة ازدادت مع طول بقائه في الحكم وهو لا يستطيع أحياناً إخفاء ما يجول في عقله، فقد سبق له ان توقع الصلاة، أو إمامة المصلين في المسجد الأموي في دمشق بعد سقوط الدولة السورية، وربما عندما تعود دمشق مدينة تركية! كان هذا بعد بدء الحرب الكونية على سورية والتي انقلب بها على شراكته السابقة مع النظام في دمشق.
لا تكتفي تركيا الأردوغانية بأن تبعد عن حدودها شرّ من تسمّيهم الانفصاليين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة شريكها في الأطلسي، ولا ترى بأساً في تمويل هؤلاء الأكراد الذين تطالب بردعهم، وذلك عن طريق شراء المسروقات النفطية السورية منهم، وإنما تتدخل تركيا في الشأن المدني وفي الاقتصاد في المناطق التي تحتلها في شمال غرب العراق والشمال السوري وتفكر بتوسيعها وتتريكها على طريقة جماعة الاتحاد والترقي قبل أكثر من قرن من الزمان، فالمدارس في إدلب ومحيطها أصبحت تدرّس باللغة التركية وإشارات الطرق ولوحات الإعلان كذلك، فيما صور الرئيس «الأب» أردوغان معلقة في الدوائر الرسمية والتداول النقدي يتمّ بالليرة التركية، وتمّ إنشاء جامعات تركية في مدن الباب وأعزاز وعفرين .
إثر قمة طهران أخذ أردوغان ما يريد من القمة، ولكنه لم يعط شيئاً، لدرجة أنه تجاهل طلب المرشد الذي يتجاوز السياسة والدبلوماسية في إيران، فليس من عادة المرشد أن يتقدّم بطلب صريح إلا عند الضرورة القصوى وعندما يكون متأكداً انّ طلبه سيجد قبولاً، أردوغان ردّ بطريقته فور عودته الى بلاده بقصف منتجعات زاخو في شمال غرب العراق ثم بإعلانه انّ العملية العسكرية في الشمال السوري لا تزال على أجندته .
يفصلنا عن مئوية اتفاقية لوزان عام قصير، حيث تنتهي مفاعيلها، ونرى التمدّد التركي يتسع والقرار التركي يضرب عرض الحائط بمطالب حلفائه، فيما الوزراء والجنرالات الأتراك يجولون الشمال السوراقيّ وكأنه جزء من تركيا، فهل ما في ذهن أردوغان إعادة الزمن لقرن الى الوراء ولما قبل اتفاقية لوزان، وإعادة حدود بلاده الى الخط الذي يبدأ من شمال حميميم الى الشرق ملتهماً الشمال السوري وشمال غرب العراق؟
يعرف أردوغان انّ ذلك يعني إعادة اقتسام شرق المتوسط مع حليفه «الإسرائيلي»، انها أحلام خطيرة ولن تتحقق، ولكنها ستكون مؤذية ومنهكة للمجال السوراقي على المدى القصير، ولكن مهلكة لتركيا على المدى الطويل.
رجب طيب أردوغان قد أصبح رجلاً خطراً لا على بلادنا فحسب وإنما على تركيا أيضاً…