قرصان أميركيّ وثعلب «إسرائيليّ»ومغفل عربيّ في منظومة واحدة…!
د. عدنان منصور
كثيرة هي الآراء والتحليلات، والتوقعات، والتقييمات حيال ما تشهده منطقة غربي آسيا، وبالذات المنطقة المشرقية العربية من تطوّرات خطيرة، وتسارع في الأحداث، أمام هجمة أميركية «إسرائيلية»، هي الأخطر في تاريخ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، حتى أنه يمكن القول، أخطر من قيام الدولة «الإسرائيلية» على أرض فلسطين عام 1948، على اعتبار أنّ الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين أيقظ الوجدان العربي، وجعل العالم العربيّ من القضية الفلسطينية، همّه الأول، رافضاً زرع الكيان الغريب في جسم الأمة، ومصمّماً على اقتلاعه. لكن أن يقبل الجسم في ما بعد، زرع هذا الكيان، يعني الاعتراف بوجود «إسرائيل» بحق وواقع، وهذا ما يقلب كلّ المقاييس والمفاهيم رأساً على عقب، كي تكون «إسرائيل» من خلال الاعتراف العربي بها حقيقة وواقعاً، وجزءاً لا يتجزأ من المنطقة ما يجعلها بعد ذلك، أن تكون قاعدة لمحور عسكري وأمني واقتصادي تدور حوله دول عربية، تنصاع له، وتدور في فلكه، وهي لا حول ولا قرار مستقلاً لها.
على مدى ثمانية عقود، لم يلتزم العرب بقرار موحّد دائم حيال الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، ولم يحافظوا بتاتاً على وحدة الصف والهدف. خلافات مستحكمة بينهم، وقرارات موسميّة سرعان ما تتغيّر وتتبدّل، ومواقف متذبذبة متباينة، وعلاقات سرية، وارتباطات من هنا، وتعاون علنيّ من هناك مع الكيان «الإسرائيلي»، باستثناء عدد قليل من الدول التي بقيت ثابتة على مواقفها، تلتزم بقضيتها رغم الحصار والعقوبات المفروضة عليها.
على مدار هذه العقود، ولنقلها بصراحة دون تردّد أو حذر، أو تحفظ، أنّ «إسرائيل» كانت تتقّدم والعرب يتراجعون، على الرغم من كلّ الإمكانات التي توفرت لهم منذ قيام «إسرائيل» عام 1948 وحتى اليوم، ورغم القدرات المالية، والعسكرية، والعلمية، والبشرية، والثروات الطبيعية الهائلة التي يمتلكونها.
لقد استطاعت «إسرائيل» إنشاء حلف «مقدس» مع الولايات المتحدة، لم يتراجع يوماً منذ تأسيسها، او يتوقف عن اندفاعه، واضعاً أمام عينيه سياسة استراتيجية ثابتة حيال المنطقة، يعمل على التمسك بها، تهدف في ما تهدف إلى منع إقامة دولة فلسطينية ـ بمفهوم الدولة ـ على أرض فلسطين بأيّ شكل من الأشكال، وإنْ تحدّثت الولايات المتحدة في مناسبات عديدة، عن حلّ الدولتين، اليهودية والفلسطينية، إذ انّ الدولة الفلسطينية مرفوضة بالمطلق، بالشكل والأساس من جانب «إسرائيل». كما انّ الحلف «المقدس» سيعطل بطريقته الخاصة، أيّ نوع من أنواع الوحدة السياسية، والاقتصادية، أو أيّ تنسيق عسكري وأمني عربي، يخرج عن إرادة واشنطن وتل أبيب.
لقد عمد الحلف الثنائي على مدى عقود، نسج علاقات سريّة مع دول عربيّة مهمة، بغية تحييدها عن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وحصر الصراع في ما أسماه بالمشكلة «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية، حيث استطاعت «إسرائيل» مدعومة من واشنطن، أن تنتزع دولاً عربية الواحدة تلو الأخرى، من حضن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وتأخذها الى المكان الذي يريده الحلف لها، وهو الاعتراف بـ «إسرائيل «والتطبيع معها.
لكن هذا الواقع الجديد، لم يمنع قيام حركات المقاومة في المنطقة ضدّ الحلف «المقدس» وحلفائه، والتي قلبت الموازين في ما يتعلق بسياسات الولايات المتحدة و»إسرائيل» في المنطقة، حيث أصبحت المقاومة وقدراتها الرادعة الضاربة، تشكل تحدياً وتهديداً مباشراً لأمن واستقرار «إسرائيل»، ولمصالح واشنطن في الشرق الأوسط وحلفائها. بدءاً من إيران مروراً بالعراق، وسورية ولبنان وصولاً إلى غزة.
لذلك، كان لا بّد من «الحلف المقدس» أن يقوم بهجمة مرتدّة، وهو في مواجهة محور معادٍ له، بعد أن أصبح له بعده القومي، والايديولوجي، والجغرافيّ، وثقله العسكريّ الكبير حيث توسّعت جذوره تمدّدت، لتضع الحلف أمام أمر واقع، لا يمكن له تجاهله أو السكوت عنه.
كان على أميركا أن تتحرك سريعاً للملمة بعض الدول العربية، قبل فوات الأوان، وقبل أن تصنع إيران سلاحها النوويّ، وقبل أن يصبح أمن الكيان الصهيوني في خطر، لا سيما بعد تزايد الشكوك عند العديد من المسؤولين والسياسيين «الإسرائيليين»، حول بقاء الكيان واستمراريته، وتوقعات عمره.
كان على الرئيس الأميركي جو بايدن، أن يتحرّك، ولو أدّى به الأمر للتخلّي عن مواقف سبق له أن اتخذها ضدّ دولة عربية. فكلّ شيء يهون كرمى لمصالح أميركا، وأمن «إسرائيل»، وإنْ كان ذلك على حساب شفافية وصدقية زعيم أكبر دولة في العالم.
أتى بايدن الى المنطقة، يحمل في جعبته ما يخدم مصالح بلاده الاقتصادية والمالية، والاستثمارية، ومصالح «إسرائيل» ذات العلاقة بالتطبيع والأمن والشراكة، ليعطيها الدور الرئيس في شؤون المنطقة.
فهو لا تهمّه المشكلة الفلسطينية، وما يجري في سورية والعراق، ولا الوضع في لبنان، وأزمته الخانقة، يعنيه فقط المال والغاز والنفط والاستثمارات وتفوّق «إسرائيل» وأمنها.
ليس من الضرورة أن يعلن بايدن بشكل رسمي عن حلف عسكري في المنطقة تكون فيه «إسرائيل» محوره، فهو وإنْ لم يعلن رسمياً عن إنشاء هذا الحلف، فإنّ طبيعة التعاون والتنسيق الأمني والاستخباري والعسكري، والسياسي بين الكيان ودول عربية، هو بمثابة حلف قائم وزيارة بايدن لا تقيّم من زاوية من هو مع، فيؤيّدها تأييداً مبالغاً، ويدافع عنها وعن إنجازاتها، او من زاوية الحكم المسبق من قبل من هو ضدّ، ليحكم عليها بالفشل الذريع، وكأنّ انتصاراً قد تحقق لجبهة المقاومة في المنطقة ضدّ «إسرائيل». لأنّ الخطأ في تقييم الزيارة ونتائجها والخطأ في الحسابات والتخمينات، يجرّنا في ما بعد الى مواقف وقرارات لن تكون في صالح جبهات المقاومة ضدّ الكيان. لذلك يجب وضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بزيارة بايدن، وتقييم نتائجها بموضوعيّة، حتى لا نخطئ بعد ذلك، ونذهب بعيداً في التشخيص والقرار والأداء.
بايدن أتى الى المنطقة حاملاً معه ملفات متعددة المواضيع، تتعلق بالطاقة، والأمن والسياسة، والاستثمارات، والأهمّ من ذلك، نجح في تطبيع «الأجواء» والسماح لـ إسرائيل» بعبور طائراتها فوق الأراضي السعوديّة، ليفسح الطريق لـ «إسرائيل» لاحقاً للعبور البريّ، والسياسيّ والتجاريّ.
وإذا كانت زيارة بايدن قد حققت بعض الأهداف التي جاء من أجلها، فهذا لا يعني، أنّ المواضيع الأخرى الحساسة سيصرف النظر عنها، فواشنطن ومعها الكيان وضعت الخطوط العريضة لمستقبل المنطقة، وهي تسير في سياسة الخطوة خطوة، فما حققته «إسرائيل» من تطبيع مع بعض الدول العربية لم يكن وليد الساعة، وإنما كان نتيجة مسار طويل، وسياسات مدروسة، بعد نسج علاقات سرية عميقة مع الأطراف العربية المعنية، من المغرب الى دول الخليج العربية، ما مكّنها أخيراً من تحقيق الهدف الذي انتظرته طويلاً، وهو اعتراف معظم العرب بها، ومن ثم التطبيع معها.
لا شك في أنّ التطبيع وما رافقه من تعاون وثيق على المستوى السياسي، والتنسيق الأمني والعسكري والاستخباري، بين «إسرائيل» والدول العربية المطبعة، استطاع أن يقلب معادلة العداء، ليصبح العدو صديقاً وحليفاً ويصبح الصديق والشقيق عدواً لدوداً.
هذا الإنجاز الكبير، والمعادلة التي رسمها الحلف الثنائي، سيجعل الدول العربية المنضوية في التنسيق الأمني والعسكري والاستخباري الواسع اليوم، والحلف المنتظر مستقبلاً، في دائرة الابتزاز المتواصل من قبل واشنطن و»إسرائيل» من خلال التهويل، والتخويف من «الخطر» الإيراني الذي يشكله عليها، ما سيدفعها في السنوات المقبلة الى إنفاق مئات مليارات الدولارات على التسلح، الذي سيغذي مصانع الأسلحة في أميركا و»إسرائيل» على السواء.
بعض العرب بتخاذلهم وحماقتهم يدمّرون الأمة، لأنه لن يكون لهم في أيّ حلف منتظر الدور الفاعل والقرار الحرّ في ظلّ الهيمنة الأميركية «الإسرائيلية» عليهم.
إنهم يشوّهون تاريخ أمة بأكملها، ويعبثون بذاكرتها وقيمها وثقافتها، وحاضرها ووجودها.
يظنّ المغفل العربيّ أنه سيكون له دور فاعل داخل الحلف الذي تحضّره واشنطن والكيان له. إلا أنه لا يدري أنه سيكون بمثابة الكرة في ملعب الحلف «المقدس»، يتقاذفها اللاعبان الأميركي و»الإسرائيلي»، يوجهانها كيف ما أرادا، وهي تتلقى الركلات من هنا وهناك، فيما الأمة تبقى أسيرة ورهينة بين قرصان أميركي، وثعلب «إسرائيلي»، ومغفل عربي.