التوافق العراقي الهشّ وإعادة تدوير الأزمات
عادل الجبوري
لعل ما يمكن ملاحظته بوضوح هو أن الانسحاب الصدري أتى على تحالف "إنقاذ وطن" الثلاثي، وهذا ما أقر به عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني وفاء محمد كريم.
منذ إعلان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في 15 حزيران/يونيو الماضي انسحابه من العملية السياسية وسحب كتلته البرلمانية المؤلفة من 73 نائباً من مجلس النواب العراقي، تشهد الساحة السياسية ارتباكاً واضطراباً وقلقاً، بدا واضحاً للغاية أنه يفوق حجم الارتباك والاضطراب والقلق طيلة الشهور الـ7 التي أعقبت الانتخابات البرلمانية المبكرة ونتائجها المثيرة للجدل.
ولأن الصدر يمتلك، إضافة إلى الثقل البرلماني، قاعدة جماهيرية واسعة تمتاز بالطاعة والولاء إلى حد كبير، فإن انسحابه لم يكن بداية لنهاية الأزمة بقدر ما مثّل مزيداً من الخلط للأوراق، وكشف عن تعقيدات أكبر بكثير من تعقيدات خياري التوافق والأغلبية، اللذين شكلا نقطة الخلاف المحورية بين القطبين الشيعيين الرئيسيين: "التيار الصدري" بمقاعده الـ73، و"الإطار التنسيقي" الذي قيل إنه نجح في جمع أكثر من 80 مقعداً.
ووفق قراءة سياسية واقعية، فإن الصدر انسحب من واجهة المشهد بعد أن أخفق في ترجمة رؤيته النظرية بتشكيل حكومة أغلبية وطنية على أرض الواقع، بعد أن كان يعوّل على استقطاب المستقلين أو حتى استمالة قسم منهم، لتأمين أغلبية الثلثين التي تتيح له ولحلفائه من الكرد والسنة في تحالف "إنقاذ وطن" تمرير مرشحهم لرئاسة الجمهورية، وهو القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبر أحمد البارزاني، ثم تسمية رئيس الوزراء وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، ولم يتأخر الصدر مع حلفائه في الإعلان عن ترشيح سفير العراق في المملكة المتحدة جعفر الصدر (نجل المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر) لرئاسة الوزراء.
ولأنه (الصدر) قرر مسبقاً عدم الدخول في أي شراكة سياسية مع قوى "الإطار التنسيقي"، رغم رغبة شركائه في التحالف الثلاثي وقناعتهم بأفضلية خيار الشراكة والتوافق والتوازن، وهو ما تحدث عنه ودعا إليه رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني بصراحة ووضوح أكبر بعد انسحاب الصدر، فما إن وجد طريق حكومة الأغلبية الوطنية موصداً أمامه، حتى حسم أمره بالانسحاب.
ولكن انسحاب الصدر بشعبيته الواسعة، وثقله البرلماني، ونفوذه السياسي، لا يمكن بأي حال من الأحوال التعاطي معه بظاهريته من دون الخوض والتعمق في دلالاته وانعكاساته ومخرجاته المحتملة، ولا سيما أنه كان بمنزلة احتجاج وغضب واستياء عبّر عنه الصدر بنفسه من خلال عدة تغريدات في موقع التواصل الاجتماعي تويتر، فضلاً عن إبقاء كل الخيارات مفتوحة.
وفي آخر تغريدة مطولة بتوقيع المقرب إليه، صالح محمد العراقي، قبل بضعة أيام، استعرض زعيم التيار الصدري 10 أسباب دفعته للانسحاب، حملت بين طياتها تشخيصاً لما يراه الصدر من مكامن خلل وانحراف ومخاطر وتحديات وتهديدات، كانت ستواجه حكومة الأغلبية الوطنية فيما لو شكلت، كما ستواجه أي حكومة أخرى.
ولعل ما يمكن ملاحظته بوضوح هو أن الانسحاب الصدري أتى على تحالف "إنقاذ وطن" الثلاثي، وهذا ما أقر به عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني وفاء محمد كريم، بقوله: "إن تحالف إنقاذ وطن قد انتهى"، وأكثر من ذلك، فقياداته الكردية والسنية التي صدمها انسحاب الصدر لم تتأخر في التواصل مع "الإطار التنسيقي"، والشروع بمفاوضات تشكيل الحكومة وفق مبدأ التوافق.
ورغم أن التحالف الثلاثي بات في نظر الكثيرين في خبر كان، ورغم أن الثقل البرلماني للإطار التنسيقي ازداد بعد تعويض أعضاء الكتلة الصدرية المنسحبين بأكبر الخاسرين، وأغلبهم من مكوّنات الإطار، إذ ناهز عدد أعضاء الأخير في البرلمان 100 نائب، لكنه من جانب، بات مكبّلاً ومحكوماً ومقيّداً بخيار التوافق الذي يحتّم عليه إرضاء مختلف الأطراف، الكبيرة منها والصغيرة، ولا شك أن عملية الإرضاء تتطلب تقديم تنازلات، وربما تجاهل أو تجاوز بعض الثوابت التي ما فتئ الإطار يشدد عليها.
من جانب آخر، وبعد أن انتقلت كرة تشكيل الحكومة من التيار إلى الإطار، فقد راحت التقاطعات والاختلافات والتدافعات حول المناصب العليا، لا سيما رئاسة الوزراء، تخترق جدران الإطار الذي ظل لعدة شهور متماسكاً وصلباً أمام التيار الصدري والتحالف الثلاثي.
ورغم أن قيادات الإطار تحرص على نفي الشائعات القائلة بوجود التقاطعات والاختلافات والتدافعات، وتصر على وحدة ذلك الكيان وتماسكه وقوته، تذهب بعض المؤشرات والمعطيات في اتجاه آخر.
فهناك اليوم عدد من قيادات الخط الأول، كرئيس ائتلاف دولة القانون، والأمين العام لحزب الدعوة الاسلامية نوري المالكي، والقيادي السابق في الحزب ورئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي، إما هم يرغبون بتولي رئاسة الوزراء أو أن الدوائر المحيطة بهم تدفع بهذا الاتجاه، معززة برؤية مفادها، أن المرحلة المقبلة بما تنطوي عليها من مخاطر وتحديات سياسية وامنية واقتصادية، تتطلب وجود شخصية تمتلك تجربة جيدة وفهماً واسعاً في إدارة الدولة، علماً أن اسم رئيس تحالف الفتح هادي العامري، كان متداولاً على نطاق واسع للمنافسة على المنصب إلى جانب المالكي والعبادي، إلا أنه أصدر بياناً توضيحياً أكد فيه عدم سعيه للترشح للمنصب، وأكثر من ذلك تشديده على رفضه القاطع لتوليه حتى لو طلب منه ذلك.
هناك، اليوم، عدد من قيادات الخط الأول، كرئيس ائتلاف دولة القانون والأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي، والقيادي السابق في الحزب ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ورئيس تحالف الفتح هادي العامري، إما يرغبون في تولي رئاسة الوزراء أو أن الدوائر المحيطة بهم تدفع بهذا الاتجاه، معززة برؤية مفادها أن المرحلة المقبلة بما تنطوي عليها من مخاطر وتحديات سياسية وأمنية واقتصادية، تتطلب وجود شخصية تمتلك تجربة جيدة وفهماً واسعاً في إدارة الدولة، في حين تتداول المحافل والصالونات السياسية ووسائل الإعلام بعض الأسماء من قيادات الخط الثاني في المنظومات الحزبية والمؤسساتية، لتولي منصب رئاسة الوزراء، من قبيل الوزير السابق محمد شياع السوداني، ومستشار الأمن الوطني الحالي قاسم الأعرجي، ومحافظ النجف الأسبق عدنان الزرفي، ومحافظ البصرة الحالي أسعد العيداني، والوزير السابق عبد الحسين عبطان.
ويرى الفريق الذي يروج ويتبنى خيار الخط الثاني، أن معظم قيادات الخط الأول أو كلها خاضت تجارب سابقة في إدارة الدولة، وفي الإطار العام، تركت انطباعات سلبية لدى الرأي العام، ومن المهم جداً البحث عن خيارات وبدائل أفضل، فضلاً عن أن بعض شخصيات الخط الثاني أثبتت نجاحاً ملحوظاً في المواقع الحكومية التي شغلتها، وهي غير جدلية، ولا موضع خلاف حاد، كما هي الحال بالنسبة إلى قيادات الخط الأول، ناهيك بأن هناك تحسساً كبيراً بين بعض تلك القيادات نفسها انعكس في أغلب الأحيان سلباً على عموم المشهد السياسي.
وحتى الآن، تبدو الصورة غامضة وضبابية، ولا يمكن القطع مبكراً بنجاح وتمرير أي من الخيارين، علماً بأن التنافس الحزبي وسعي كل طرف إلى فرض مرشحه الرسمي أو غير الرسمي، أخذ يشغل حيّزاً غير قليل في مجمل حراك كواليس الإطار التنسيقي، إلى جانب البحث في حصة كل طرف من المواقع الحكومية في التشكيلة الجديدة المرتقبة.
ولعل رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الطامح لولاية ثانية، يراهن على إخفاق الفرقاء وفشلهم في الاتفاق على اسم معين، ليصار إلى القبول به كأمر واقع، وربما تتعزز فرصه بالبقاء، بفضل تأييد قوى داخلية وخارجية مختلفة ودعمها.
لا ينفصل حراك كواليس الإطار بأي شكل من الأشكال عن حراك كواليس البيتين الكردي والسني، ففيما يترقب الفرقاء الكرد ما تتمخض عنه جهود البيت الشيعي من مخرجات، لعلّها تسهم في حلحلة أزمة اختيار رئيس الجمهورية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، يأمل الإطار التنسيقي أن يخرج الحزبان الكرديان بصيغة توافقية، يمكن بدورها أن تمهد السبيل وتختصره نحو رئاسة الوزراء.
قد لا يخرج حراك البيت السني عن حراك البيتين الشيعي والكردي، والذي بدأ بطابع عشائري قبل نحو شهرين، مستهدفاً رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ثم أخذ نطاقاً أوسع، عبر اجتماعات متتابعة لعدد من كبار الشخصيات السياسية السنية، من بينها صالح المطلك ومحمود المشهداني وسليم الجبوري وجمال الكربولي وأسامة النجيفي.
ولا شك أن هذه الشخصيات تمتلك قواعد وامتدادات جماهيرية جيدة، فضلاً عن علاقاتها الخارجية مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة، يمكنها أن تغيّر بعض المسارات وتحجّم نفوذ الحلبوسي إن لم تفلح في إطاحته، ناهيك بإمكانية تفكيك تحالف السيادة بالأساس.
ومن المهم الالتفات إلى حقيقة أن تداخل مسارات الحراك في المساحات المختلفة يعني بصورة أو بأخرى ارتباط المخرجات مع بعضها البعض، أي بعبارة أخرى، لا بد من أن تكون هناك تنازلات وترضيات ومساومات، إذا أريد العمل بمبادئ الشراكة والتوازن والتوافق، ومن الطبيعي أن يعيد ذلك إنتاج المعادلات والتوازنات السابقة، مع اختلافات بسيطة لا يعتد بها كثيراً في الآليات والشخوص. وحينذاك سوف تكون الخيارات أمام زعيم التيار الصدري المنسحب من واجهة المشهد، وليس من المشهد بأكمله، مفتوحة على كل الاتجاهات، بدءاً من تحريك الشارع - ولعل صلاة الجمعة الموحدة الاخيرة في مدينة الصدر التي تعد معقل التيار الصدري، وما سبقها من استحضارات واستعدادات وتحشيد تؤشر في جانب منها إلى ذلك - مروراً بالدعوة والتحشيد لحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة مرة أخرى، إلى تغيير رئيس الوزراء وحتى "الكابينة" الحكومية.
ولعلَّ مثل هذه الخيارات هو الذي يوجد ويعمق القلق لدى قوى الإطار التنسيقي وغيرها، ويجعلها تسعى جاهدة إلى استرضاء الصدر وفتح قنوات للتواصل والتنسيق معه، بيد أن من المستبعد جداً أن يتحقق ذلك، لأن الأخير يراهن على -أو يفترض- أن فرص نجاح أي حكومة تتشكّل من خلال الآليات والمنهجيات السابقة نفسها، سوف يكون مصيرها الفشل، وحراك الشارع الذي أسقط حكومة عادل عبد المهدي في أواخر عام 2019، سيكون قادراً على إسقاط أي حكومة أخرى.
وحتى الآن، لم تتبلور ولم تلح في الأفق أي ملامح أو مؤشرات لشيء جديد مختلف عن السابق، سوى تصريحات وتغريدات من بعض الطامحين للتربع على كرسي رئاسة الوزراء تتضمن وعوداً وتعهدات وشعارات وردية فضفاضة ليس إلا، وهذا ما يقلص مساحات التفاؤل ويوسع مساحات التشاؤم. وأكثر من ذلك، يعمق المخاوف والهواجس من تكرار صور الأمس ومشاهده.