kayhan.ir

رمز الخبر: 153634
تأريخ النشر : 2022July13 - 20:19

العراق والناتو الشرق أوسطي بين تجارب الماضي وحقائق الحاضر

 

عادل الجبوري

لن يكون مصير الناتو الشرق أوسطي، فيما لو كتب له الانبثاق والوجود أفضل حالاً من حلف بغداد ومجلس التعاون العربي، ولا من مجلس التعاون الخليجي.

من الطبيعي جداً أن يدفع طرح تشكيل تحالفات جديدة على صعيد المنطقة، مثل الناتو العربي، أو الناتو الشرق أوسطي، إلى فتح ملفات قديمة وتقليب أوراقها، وتتبع مساراتها ومآلاتها ونهاياتها، من أجل إجراء مقارنات ومقاربات بين التحالفات السابقة ومشروعات التحالفات المطروحة، في ضوء الظروف والأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الدولية والإقليمية العامة، التي انبثقت منها أو في ظلها التحالفات.

ولأن البعض استبق عقد القمة المرتقبة في العاصمة السعودية الرياض، منتصف شهر تموز/يوليو الجاري، بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية ودول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن والعراق، ليطرح فكرة تشكيل تحالف شرق أوسطي على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي أسس قبل ثلاثة وسبعين عاماً (4 نيسان/إبريل 1949)، فإن من المرجح والطبيعي أن يحتدم النقاش والجدل في جدوى تشكيل تحالف من هذا القبيل وأهميته وفائدته، وما هي مهامه، وإلى من سيوجّه، وما طبيعة الدول التي يفترض أن تنخرط فيه وما هويتها؟

ومن المعلوم أن حلف الناتو، شكل من أغلب دول المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق وعموم المنظومة الاشتراكية الشيوعية، في إطار الحرب الباردة التي انطلقت بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في الثاني من أيلول/سبتمبر عام 1945.

وفي ضوء معادلات وتوازنات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، راحت تندلع الحروب والصراعات بالنيابة في مختلف بقاع العالم، وتتكوّن الأحلاف العسكرية وغير العسكرية الإقليمية هنا وهناك، وكانت منطقة الشرق الاوسط، بسبب أهميتها الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية، إحدى أبرز بؤر الصراع والتنافس والأحتراب بين القوى الدولية الكبرى، ولم يكن العراق بحكم موقعه وإمكاناته وثرواته وواقعه السياسي، بعيداً من ذلك، إن لم يكن في قلب التفاعلات على طول الخط.

ولعل حلف بغداد المركزي أو ما عرف بـ(السنتو CENTO) الذي أسّس عام 1955، وضم في عضويته العراق وبريطانيا وتركيا وباكستان وإيران، جسّد أحد أبرز الأمثلة والمصاديق على المساعي والجهود الدولية المحمومة لجّر العراق إلى ميادين المحاور والاصطفافات الدولية.

غير أن رئيس مجلس الوزراء العراقي حينذاك، نوري السعيد، أخفق في إقناع عدد من الدول العربية، كمصر وسوريا، بالانضمام إلى ذلك الحلف، لأنهما كانتا تدركان أن الخطر الرئيس على الوطن العربي مصدره إسرائيل لا الاتحاد السوفياتي، ولم تدم الحال طويلاً، إذ بعد انقلاب 14 تموز/يوليو 1958 وسقوط النظام الملكي في العراق، انسحب الأخير من الحلف، وانتقل مقره من بغداد إلى العاصمة التركية أنقرة.

وفي الخامس والعشرين من أيار/مايو عام 1981 أُسس مجلس التعاون الخليجي في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، من الدول الخليجية الست (السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعُمان)، في إطار المساعي والجهود والتحركات الدولية الغربية لمواجهة خطر تمدّد الثورة الإسلامية الإيرانية التي كانت قد نجحت بزعامة الإمام الخميني في إطاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي في ربيع عام 1979.

وقد حاول العراق في ظل نظام حكم حزب البعث الانضمام إلى المجلس، إلا أن أغلب أعضائه، رفضوا ذلك، مع أن ذلك النظام مثل خط الصدّ المتقدّم بين إيران ودول الخليج، من خلال حرب الأعوام الثمانية (1980-1988)، التي قدمت فيها دول الخليج جميع أنواع الدعم والإسناد السياسي والعسكري واللوجيستي والإعلامي للنظام العراقي من أجل إلحاق الهزيمة بإيران، وإسقاط النظام الإسلامي فيها تالياً. 

ارتبط رفض دول مجلس التعاون الخليجي انضمام العراق إلى مجلس التعاون، بجملة مخاوف وهواجس من هيمنة نظام صدام الذي كان معروفاً بنزعاته العدوانية التآمرية حتى على أقرب المقرّبين إليه.

ولأن نظام صدام أدرك حينذاك طبيعة تفكير ومخاوف وهواجس الأنظمة الحاكمة في دول الخليج، لاسيما السعودية والكويت، فإنه ما إن انتهت حرب الخليج الأولى صيف عام 1988، حتى راح يؤسّس لتجمّع أو حلف إقليمي في مقابل مجلس التعاون الخليجي، وقد نجح فعلاً في إقناع الأردن ومصر واليمن بالدخول مع العراق في حلف جديد سمّاه (مجلس التعاون العربي)، الذي أبصر النور في بغداد، في السادس عشر من شباط/فبراير عام 1989.

أعلن الحلف الجديد ولكنه بدا من الوهلة الأولى وكأنه ولد ميتاً، فلم يمرّ أكثر من عام ونصف عام حتى انهار وطويت صفحته، بعد انخراط مصر في التحالف الدولي لتحرير الكويت من قبضة نظام صدام، وقد وصف الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك هذا المجلس بعد غزو الكويت بـ"مجلس التآمر العربي".            

والملاحظ أن مجمل التحالفات أو التجمّعات والمجالس التي انضم إليها العراق أو بادر إلى تأسيسها، لم تخرج من دائرة استهداف الآخر والتامر والعدوان عليه، وربما هذا ما جعله مستغرقاً ومنهكاً في حروب وصراعات داخلية وخارجية عبثية، أعادته عشرات السنين إلى الوراء.

وبعد سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، شهدت المنطقة ومعها العالم كثيراً من التحولات والمتغيّرات، وجابهت مخاطر وتحديات جمّة، كان العراق مقحماً فيها بقوة، وقد راحت مشروعات التطبيع مع إسرائيل، وجهود إعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يضمن أمن الأخيرة، ويحاصر ويحجّم إيران، تتحرك بوتيرة سريعة جدًا، لاسيما في الأعوام القليلة الماضية.

ومع أن العراق لم يبرم أي اتفاقيات ولا أي معاهدات تطبيعية مع إسرائيل، على عكس دول أخرى، مثل الإمارات والبحرين وعمان والمغرب، وقبلها مصر والأردن، كانت عيون "تل أبيب" وواشنطن ولم تزل شاخصة نحو بغداد، وكان العراق حاضراً في أي مشروعات تسوية، كما هي الحال في مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومشروع صفقة القرن، وما سمّي اتفاقيات السلام الإبراهيمي، والشام الجديد، والناتو العربي، ثم الناتو الشرق أوسطي، إذ إن هناك-كما قلنا في مقال سابق- قناعة راسخة لدى دوائر صناعة القرار في "تل أبيب" وواشنطن وعواصم غربية أخرى، وكذلك لدى مراكز الأبحاث والتفكير الإستراتيجية، بأنّ العراق يمثّل البوابة الأساسية والمدخل الرئيس إلى كل مشروعات التطبيع وبرامجه وخطواته، ارتباطاً بموقعه وثرواته وتركيبته المجتمعية وإرثه التاريخي، ولا سيما إذا عرفنا أن الوجه الآخر لأي مشروع يراد منه تقوية "إسرائيل" يتمثّل في إضعاف إيران ومحاصرتها وعزلها- أو الإسلام السياسي الشيعي عموماً- ومن يرتبط بها ويتحالف معها، إن لم يكن جرّه بعيداً عنها.

واللافت أنه بعد بضعة أعوام من طرح مشروع الناتو العربي، واندفاع الولايات المتحدة إليه كثيراً في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وكذلك في عهد خلفه دونالد ترامب، طُرح مصطلح آخر، هو الناتو الشرق أوسطي، كما جاء في حوار مفصل أجرته شبكة ( CNBC) الأميركية  قبل ثلاثة أسابيع مع الملك الأردني عبد الله الثاني. ولعلنا عند التدقيق، لن نجد فرقاً جوهرياً بين فكرتي الناتو العربي والناتو الشرق الأوسطي، وذلك التغيير في المسمّى ربما أريد منه استيعاب كيانات ودول من خارج المنظومة العربية، وإسرائيل هي المعنية أكثر من أي طرف آخر، بقدر ما هي إيران مستهدفة من جميع مشروعات التطبيع والمعاهدات والاتفاقيات والأحلاف المرسومة في واشنطن، والعواصم الحليفة أو التابعة لها.

وإذا ذهبنا أبعد من ذلك، فيمكن الاتفاق -ولو نسبياً- مع ما يراه بعض الساسة وأصحاب الرأي في الغرب والعالم العربي "أحد أهداف فكرة ناتو شرق أوسطي هو أن يكون ذراعاً للحلف الأطلسي في المنطقة لمواجهة التمدّد الروسي، لا الإيراني وحسب، خصوصاً أن موسكو ترتبط بعلاقات شديدة التميّز بدول عربية عدة، على رأسها الجزائر، ومصر". ويشير البعض، إلى "أن دول أوروبا والولايات المتحدة لا تريد أن ترى وجوداً للقوات الروسية في العراق وأماكن أخرى، لذلك سيمنع الناتو الشرق أوسطي ذلك من الحدوث، وسيضمن عدم تعدي موسكو على تلك المناطق، سواء من خلال عرض الوجود العسكري أو الدخول في برامج التدريب".

وإذا كان قد أريد للعراق قبل أربعة عقود أن يكون كماشة النار في الصراع مع إيران، ولم يجنِ من وراء ذلك سوى المآسي والكوارث والويلات والتخلف والدمار، فيبدو أن السيناريو يراد له أن يتكرر الآن، ولكن بأدوات ووسائل وأساليب مختلفة، وإلا فماذا يمكن أن يجني العراق من تحالف إقليمي مشابه للناتو الغربي، وهو تحالف أطرافه المفترضة مختلفة ومتقاطعة ومتناقضة فيما بينها أكثر بكثير مما هي متفقة ومنسجمة ومتوافقة؟.

لن يكون مصير الناتو الشرق أوسطي، فيما لو كتب له الانبثاق والوجود أفضل حالاً من حلف بغداد ومجلس التعاون العربي، ولا من مجلس التعاون الخليجي، الذي لم يصل بعد أربعين عاماً من نشوئه إلى منجز يعتدّ به سوى إدانة إيران والتحريض عليها بلا طائل.

ما يحتاج إليه العراق بعد سلسلة طويلة من السياسات الخطأ والارتجالية والعدوانية والانفعالية، تجنّب الاصطفافات والمحاور العبثية العقيمة من جانب، والمثيرة للمشكلات والأزمات والزارعة للألغام من جانب آخر. ولن تكون على الأرجح مشكلة كبيرة في حضوره ومشاركته في قمة الرياض المرتقبة، ولا في أي محفل أو ملتقى آخر، إقليمياً كان أم دوليًا، بيد أن المشكلة والخطر الحقيقي يكمنان في ما يمكن أن يترتّب من التزامات عليه جراء الحضور والمشاركة، لاسيما أن مسارات الأمور وطبيعة الأهداف، إما أنها غير واضحة بالقدر الكافي، وإما لا تنسجم ولا تتوافق ومصالحه الوطنية وضرورات ومقتضيات الأمن الإقليمي لعموم دول المنطقة