الناتو في المفهوم الاستراتيجيّ ٢.٢٢: هل هي العودة إلى الحرب الباردة؟!
العميد د. أمين محمد حطيط
بعد ان وصل الغرب بقيادة أميركية الى الطريق المسدود في تطبيقات استراتيجية القوة الصلبة، وتمّ نعي هذه الاستراتيجية في العام 2006 على هضاب جبل عامل وفي أوديته التي تحوّلت الى مقابر للدبابات «الإسرائيلية» التي سدّ حطامها الطريق الى شرق أوسط أميركي جديد، كما أعلنت كونداليزا رايس. بعد كلّ ذلك انقلب الغرب الى القوة الناعمة ثم الى القوة الناعمة الذكية وأعلن الحرب الشاملة على الإرهاب وهو يعني بشكل أساسي المقاومة او المقاومات التي عرقلت المسير الى النظام الأحادي القطبية، التي أقامت في جنوب لبنان في العام 2000 ثم 2006 وبينهما في غزة في العام 2005 العوائق التي عرقلت السير لبلوغ ذاك النظام الذي تتوخى أميركا فرضه لتحكم العالم به.
في ظلّ تلك المواجهات ونتائجها انعقدت قمة الناتو في العام 2010 للتباحث في المسار والمفهوم الذي على الحلف ان يعتمده في العقد المقبل، وخلص المجتمعون الى تشكيل لجنة استراتيجية خاصة أنيط بها تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف للعقد المقبل. وبعد سنة من البحث والتمحيص خلصت اللجنة الى وضع مشروع مفهوم استراتيجي مختصر (١٢ صفحة) حدّدت بموجبه استراتيجية الحلف التي ضمّنتها الخطوط الرئيسية للتهديدات التي يواجهها الحلف وأسلوب مواجهتها وركزت الوثيقة تلك على ٤ محاور أساسية: أوّلها تحديد الخطر الأساس وحدّدته بـ «الإرهاب»، وثانيها السلوك المتبع وحدّد بأسلوب «إدارة الأزمات» وغلق جبهات الجيوش التقليدية، والثالث فيها التأكيد على أهمية الشرق الأوسط وما فيه من طاقة ومعابر، والأخير كان التذكير بسلاح الردع النوويّ الذي يمسك الحلف به.
بعد اعتماده من قبل قادة الحلف في العام 2011 ترجم هذا المفهوم في الميدان الشرق أوسطي حروباً طالت أكثر من دولة عربية كانت أخطرها الحرب الكونية على سورية والعدوان على اليمن، وتدمير ليبيا، لكن الحلف الأطلسي وبقيادة أميركا لم يستطع أن يحقق أهداف حروبه كما خطط ولم يستطع ان يستفيد من الإرهاب الذي احتضنه وادعى الحرب عليه، ولم يستطع ان يستثمر في هذا الإرهاب في السقف الذي توخاه ووصل الى قناعة بأن ذاك العقد من الزمن صبّ في مصلحة خصومه روسيا والصين ومحور المقاومة وبخاصة إيران.
بيد أنّ أخطر ما واجهته قمة الأطلسي في مدريد 2022 هو مشهد ما يجري في أوكرانيا حيث شرعت روسيا منذ ٤ أشهر بتنفيذ عملية عسكرية خاصة غير آبهة بكل التهديدات والضغوط والمواقف التي يتخذها الأطلسي حيالها، يعطف ذلك على الاندفاع الصيني الاقتصادي الذي تخطى بأهميته وفعاليته وقدراته ما بلغه الاقتصاد الأميركي الذي يشهد تراجعاً وصعوبات غير سهلة المعالجة، وتُضاف إليه معضلة البرنامج النووي الإيراني الذي انسحبت أميركا من الاتفاق الدولي حوله، وتتعثر حتى الآن مفاوضات إعادة إحيائه.
في مواجهة هذه التحديات، يبدو أنّ قمة الناتو في مدريد اعتمدت مفهوماً استراتيجياً جديداً للعمل به خلال ما تبقى من العقد الحالي، أيّ حتى العام 2030 (يعتمد الحلف أسلوب المراجعة الدورية لمفهومه الاستراتيجي في مطلع كلّ عقد، بحيث يقف فيه على حصاد العقد الماضي وتحديات العقد الآتي ووضع استراتيجية المواجهة). وقد تضمّن المفهوم الجديد تغييراً هاماً لبعض الأساسيّات التي كانت تميّز المفهوم السابق كما يلي:
ـ في التهديد الأساسي والعدو الأهمّ: حدّدت قمة الناتو 2022 الاتحاد الروسي بأنه التهديد الأخطر والأهمّ استراتيجياً وعسكرياً لكونه «أكبر وأهمّ تهديد مباشر لأمن الحلف وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية»، وأكدت «أنّ الحشد العسكري لموسكو، بما في ذلك في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، إلى جانب تكاملها العسكري مع بيلاروسيا، يتحدّى أمننا ومصالحنا». هنا نلاحظ مدى التركيز على الوضع العسكري لروسيا من جهة، ومن جهة أخرى نجد انّ الإرهاب الذي كان يشكل بنظر الحلف التهديد الأساس في مفهوم 2011 تراجع او حجب عن موقع التحدي الأساسي للناتو واكتفي بالإشارة الى المنظمات الإرهابية بشكل عام ودور الحلفاء في المكافحة، واحتلت روسيا موقع الصدارة في التهديد والعداء تليها الصين، لكن ليس بعنوان عسكري بل اقتصادي.
ـ أسلوب المواجهة: هنا نجد تغييراً هاماً في الأمر، حيث تحوّل الناتو من أسلوب «إدارة الأزمات» و»إقفال الجبهات» أمام الجيوش التقليدية، الى الأخذ بمفهوم «الحسم العسكري» لأيّ صراع ينفجر في العالم دون أن يتورّط الناتو بذاته او بجيوش أعضائه في الصراع الميدانيّ بشكل مباشر، أيّ اعتماد حرب الوكلاء المدعومين، ولكن هل بمقدوره أن يضبط المواجهة هكذا ويفرض سيطرة على الميدان؟ أشك…!
ـ الردع ومنطقة الاهتمام: بعد أن حدّد في المفهوم السابق وبشكل واضح دور السلاح النوويّ بأنه سلاح ردع استراتيجي أغفل في المفهوم الحالي النص الصريح على هذا وأكد أنه «سيعزّز الردع والدفاع لدى الحلفاء، وسيردّ على التهديدات بطريقة موحّدة ومسؤولة، وسيبقي على قنوات اتصال مفتوحة مع الروس لمنع التصعيد»، مركزاً في ذلك على أولوية مناطق روسيا والصين التي تتقدّم الاهتمام السابق بالشرق الأوسط. وفي هذا الاتجاه الجديد إشارة واضحة الى تحضير الناتو نفسه لسباق تسلح جديد يُذكّر بما كان قائماً إبان الحرب الباردة قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، وهذا ما توقفت عنده وحذرت منه وزارة الخارجية الروسية، حيث رأت انّ «نتائج قمة الناتو في مدريد تظهر أنّ الحلف قد عاد الى تكتيكات الحرب الباردة وانّ الكتلة تبدأ سباقاً جديداً للتسلح مما يجرّ العالم الى دوامة خطيرة».
ـ الخطر الصيني، وهنا تكمن فضيحة الحلف وخداعه وخروجه عن ميثاقه، اذ رغم أنه لم يذكر بشكل موضوعي أيّ تهديد عسكري تشكله الصين لأيّ من دول الحلف، الذي هو في الأساس حلف للدفاع عن أراضي الدول الأعضاء وشعوبها والصين بعيدة عنهم جميعاً، يركز على خطر الصين المتمثل بقدراتها الصناعية والتكنولوجية والاقتصاد بوجه عام ويصف أساليب الصين بأنها «خبيثة» ويدعو الى مواجهتها. وهنا يكمن السؤال: كيف؟ هل بمزيد من الحرب الاقتصادية؟ ام سيكون الحسم العسكري معها أيضاً مطلوباً؟ وهل ستشكل تايوان مدخلاً لاحتكاك عسكري يدخله الناتو بقيادة أميركية ويشكل طرفاً رئيسياً فيه؟
عندما وقفنا على المفهوم الاستراتيجي للأطلسي في العام 2011 قلنا (وذكرنا هذا في مقالات سابقة) انّ الشرق الأوسط سيكون على موعد مع أزمات متلاحقة عمودها الفقري الإرهاب أزمات ينتجها الغرب ـ الأطلسي ثم يدّعي أنه بصدد حلها والهدف هو السيطرة والهيمنة على المنطقة وعبرها على العالم من غير ان تتورّط جيوشه بغزو واحتلال، وهذا ما حصل بالفعل لكنه فشل. واليوم نقول إنّ العالم في ظلّ خيارات الأطلسي الاستراتيجية المحدّدة في مفهومه الاستراتيجي 2022 سيكون على موعد مع سباق تسلح خطر وحروب اقتصادية قاسية مترافقة مع حروب نارية متناثرة تدّعي أميركا أنها تواجه بها روسيا والصين، حروب تنفجر دون ان تتحد جبهاتها المتعددة لتشكل حرباً عالمية ثالثة قد تنقلب الى نوويّة مدمرة بأسرع ما يظن الغرب، ولكن ستكون تلك الصراعات قاسية على الشعوب إنْ لم تتوحد جهودها لمواجهة نزعات الهيمنة الأميركية والأطلسية، فأميركا لا يهمّها سوى نفسها ومصالحها حتى ولو أحرقت العالم.
ومع هذا نذكر بأنّ أيّة حرب تقوم على ركنين: الأول لوجستي والثاني عملاني ويتقدّم اللوجستي على العملاني، واليوم يجب ان لا ننسى التراجع في اقتصاد العالم عامة ودول الناتو خاصة، وانّ الحرب الاقتصادية التي يشنها الغرب يميناً وشمالاً وصلت الى مستوى بات الغرب أول المكتوين بنارها، ولكلّ ذلك نقول انّ الحروب المتناثرة او المنفردة وسباق التسلح الذي يهدّد به او يطمح الناتو بقيادة أميركية اليه، انّ كلّ ذلك لن يصل بهم الى صورة تختلف عن حصاد المفهوم الاستراتيجي للعام 2011 إنْ لم يكن أسوأ، وانها لن تمكنهم من الهيمنة على العالم في ظلّ تشكل كيانات ومجموعات استراتيجية تتأهّب لاحتلال مواقعها بجدارة في نظام عالمي تعدّدي قيد التشكل وفي طليعتها الصين وروسيا وإيران ومحور المقاومة الذي هي في صلبه.