هل اقتربت الحرب العالميّة الثالثة؟
العميد د. أمين محمد حطيط
كان لافتاً ما جاء في كلام قائد الجيش البريطاني الى جنوده غداة تعيينه في منصبه الجديد و»تنبيههم» لا بل «إنذارهم» بأنهم سيجدون أنفسهم قريباً في خضمّ حرب عالمية ثالثة بدأت تتوالد عناصر اندلاعها بسرعة منذ اللحظة التي اندلعت فيها نار حرب برية في أوروبا لأول مرة منذ العام ١٩٤١، تحذير او تنبيه يطلقه المسؤول العسكري البريطاني في لحظات أوروبية وغربية وعالمية حساسة وحرجة وفي ظلّ مشهد أوروبي عملاني بدأ بالتشكل مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، مشهد يوحي تشكله بأنه يسير في غير الاتجاه الذي أراده أو شاءه المحور الانكلوساكسوني بقيادة أميركا ودفع أوروبا والحلف الأطلسي لاعتماده نهجاً وسلوكاً في مواجهة روسيا، فهل يصدق القائد الإنكليزي وينفجر الوضع الدولي حرباً عالمية ثالثة؟
في البدء لا يمكن لأحد أن يجادل في مسألة اتساع دوائر التوتر والاحتكاك في العالم، ولا يمكن أيضاً إغفال ما نجم على الصعيد الدولي من قواعد ومفاهيم جديدة بعد الحرب الكونية التي استهدفت سورية وأعقبت الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان والأهمّ بعد الصورة التي ارتسمت دولياً اثر العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
وإنّ مراجعة موضوعية شاملة لخريطة الاشتباك او النزاع الدولي تشي بأنّ منسوب التوتر العالمي بات في مستوى متقدّم بعد أن فشل الغرب بقيادة أميركية في تحقيق أهدافه التي اعتمدها وأعلنها منذ انحلال الاتحاد السوفياتي، ذاك الانحلال الذي أنهى الحرب الباردة لصالح أميركا التي خرجت منها منتصرة بغير كلفة تذكر، انتصار جعلها ترفع سقف طموحها وتتطرف في سياستها لتظهر كما قال رئيسها بوش الابن «بأنّ الرب اختارهم ليحكموا العالم ويسيروا به وفقاً للإرادة الإلهية». قول ترجم قاعدة جديدة في القانون الدولي أطلقتها أميركا واعتمدتها ضمناً الأمم المتحدة تقول بـ «الحق في التدخل الدولي الإنساني» الذي يستبيح سيادة الأمم والدول والشعوب، وتفرض أميركا إرادتها لأنها كما ادّعى رئيسها تترجم الإرادة الإلهية.
بيد أنّ أميركا ومعها الغرب الأطلسي عجزا عن تحقيق أهدافهما رغم ما اعتمدا في سبيلها من استراتيجيات متعددة بدءاً بـ «القوة الصلبة» مروراً بالقوة الناعمة، وصولاً الى القوة الناعمة الذكية والقوة الإرهابية المركبة، كلّ هذه الوجوه في استعمال القوة لم تؤدّ إلى إرساء النظام العالمي الأحادي القطبية، لا بل حدث شيء نقيض تمثل أولاً في الشرق الأوسط بقيام محور المقاومة الذي منع المحور الآخر من تحقيق أهدافه، وبشكل خاص أفشله في كلّ من سورية واليمن، وتبلور ثانياً في الجرأة الروسية في إطلاق العملية الخاصة في أوكرانيا والتي لها خصوصية تهز هيبة الأطلسي وفعاليته.
لقد أرادت أميركا ومعها الحلف الأطلسي الذي تحوّل بالسلوك العملي من حلف دفاعي، كما ينصّ ميثاق إنشائه الى تكتل عسكري هجومي عدواني تستعمله أميركا لتنفيذ سياساتها الاستعمارية وطموحاتها العدوانية ضدّ الدول والشعوب. أرادت أميركا أن تجرّ روسيا الى حرب تستنزف فيها قدراتها وتكسر هيبتها وتشلّ اقتصادها وتشطبها عن المسرح الدولي باعتبارها دولة من الصف الأول لتحوّلها الى دولة شبه إقليمية عاجزة محاصرة، فردّت روسيا بعمل عسكري مدروس يدفع عنها الخطر ويجنّبها الوقوع في الفخّ الذي نصبته أميركا لها في أوكرانيا.
لقد عرفت روسيا كيف تستغلّ الظرف الدولي وتتعامل مع نتائج الحروب الأميركية في العالم وبخاصة الحرب الكونية التي استهدفت سورية وعجزت أميركا عبرها عن إسقاط الدولة او تفكيكها أو جعلها في الموقع الذي تريده، عرفت روسيا كيف تقتنص الفرصة لتظهر قدرتها على المواجهة وشجاعتها في القرار وعدم تهيّبها أو خوفها من التهويل الغربي، ووضعت خطة التعامل مع التهديد الأطلسي من الباب الأوكراني تمكنها من العمل المسيطر عليه، وتمنع انزلاقها بعيداً الى حيث يريد العدو، وها هي بعد أربعة أشهر من بدء العملية وعلى أبواب نهاية المرحلة الثانية منها تستطيع، أيّ روسيا، أن تدّعي وبموضوعية أنها أنجزت معظم ما ذهبت الى تحقيقه هناك والأخطر مما في الأمر أنها فضحت العجز الغربي، وأسّست لواقع دولي لا يناسب في شيء أحلام أميركا وأتباعها من شركاء أو حلفاء.
لقد شكلت نتائج العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا حتى الآن صفعة للغرب وجعلته يعاني مما هدف الى دفع روسيا الى المعاناة منه، يعاني من الاستنزاف المتعدّد الوجوه، ومن الاختلال في دورته الاقتصادية، والتصدّع في علاقاته البينية حتى تشكل على الأقلّ محوران فيه المحور الانكلوساكسوني الذي يدعو الى إطالة أمد الحرب في أوكرانيا وإحداث بؤر توتر جديدة أيضاً مع التهويل بالحرب العالمية الثالثة، ومحور لاتيني جرماني يقرّ بالنتائج السلبية عليه للأزمة الأوكرانية وبعجزه عن الاستمرار في تغذية الصراع وتقديم المساعدات لأوكرانيا لمواجهة روسيا، ويدعو للتسليم بهذا الواقع والذهاب الى التفاوض الذي ينهي الحرب بعد الاستجابة للمصالح الأمنية والاستراتيجية الروسية.
ورغم واقعه غير المريح فإنّ المحور الغربي الانكلوساكسوني يرى انّ الأزمات الدولية تفرخ كالفطر وانّ حرباً عالمية ثالثة بات لا بدّ منها لحسم النزاعات وإرساء استقرار المنتصر في الحرب كما فعلت الحرب الثانية نوعاً ما، لكن هذا المحور الذي يهوّل بالحرب تلك ينسى او يتناسى انّ ظروف المواجهة العالمية لم تعد تخدم أهدافه في ظلّ متغيّرات أساسية ثلاثة تحكم أيّ مواجهة مستقبلية، أولها تنامي نزعة المقاومة القوية الفاعلة لدى الدول والشعوب المناهضة للغرب، وثانيها كسر احتكار الغرب لمصادر التسليح، وثالثها عجز الغرب عن التحكم بمصادر الطاقة العالمية. متغيّرات يقود الأخذ بها الى القول بعدم مصلحة الغرب في أيّ حرب ثالثة لأنها إذا وقعت لن تفضي رغم ما ستحدثه من تدمير هائل مع إمكانية تحوّلها الى مواجهات نووية، لن تفضي الى انتصار الغرب فيها.
وعليه نقول انّ بؤر التوتر الدولية رغم تعدّدها وتكاثرها من تايوان شرقاً الى الشرق الأوسط غرباً وأوكرانيا شمالاً مع ما يحتمل ظهوره من الجديد منها، فإنها تبقى دون مستوى القدرة على إحداث حرب عالمية ثالثة في ظلّ المتغيّرات الثلاثة التي ذكرت؛ ويضاف إليها التراجع الحادّ في الوضع الاقتصادي الدولي بشكل عام والوضع الأوروبي والأميركي بشكل خاص، لذلك نرى انّ البديل للحرب الثالثة هو النزاعات المتفرّقة والمتزامنة التي تتبادل التأثير دون أن تتطوّر الى صراع واسع يشمل المعمورة تحت عنوان حرب عالمية ثالثة. وانّ التحذير البريطاني الانكلوساكسوني جاء للتهويل وإظهار القوة والجهوزية وهما غير موجودين في عالم الحقيقة الفعلية الغربية.
وعلى هذا الأساس لن نستغرب كما لا نستبعد انفجاراً ميدانياً هنا او اندلاع نار هناك خاصة في قارات العالم القديم الثلاث، ولا نستبعد صراعاً أو حرباً محدودة على الطاقة او المياه او الغذاء لكن كلّ ذلك سيبقى تحت سقف السيطرة المعقولة، لأنّ الدول الأقوى عسكرياً في العالم والتي تملك السلاح النووي وتهدّد باستعماله حفاظاً على وجودها تعلم أيضاً حقائق ثلاث أوّلها حجم التدمير الهائل المتبادل في أيّ حرب عالمية شاملة، تدمير قد يكون من طبيعة الإفناء للبعض، وثانيها العجز عن الحسم وفقاً لإرادة المهاجم، وثالثها العجز عن السيطرة على دورة الاقتصاد العالمي. ومع استبعاد هذه الحرب والقول بتواصل النزاعات المتفرّقة لا بدّ من الانتباه الى انّ الخاسر في الشأن هو الذي كان يطمح للسيطرة الشاملة وسيجد نفسه في نهاية المطاف يفقد الجزء الأكبر منها مع تقدّم الدول والشعوب الصاعدة التي تكتب تاريخاً مناقضاً لتاريخ الاستعمار بوجهيه القديم والحديث.