"مسيرة الأعلام" ومعركة السيادة على القدس
وسام أبو شمالة
خشية تدهور الموقف وانزلاقه نحو مواجهة عسكرية، سيناريو يتعارض مع أهداف الإدارة الأميركية بخفض التصعيد في المنطقة.
يكاد المشهد ما قبل أيار/مايو 2021 أن يتكرر هذا العام في فلسطين، بعد إعلان العدو الإسرائيلي السماح للمستوطنين بتنظيم ما يسمّى بـ "مسيرة الأعلام" الصهيونية يوم الأحد القادم الموافق 29أيار/مايو، في مدينة القدس المحتلة، في ذكرى احتلال القدس، ونشر الاحتلال خارطة توضح خط سير المسيرة، وعزمها العبور من باب العمود والحي الإسلامي بالمدينة المقدسة.
أعلنت الفصائل الفلسطينية والغرفة العسكرية المشتركة، أنها في حالة انعقاد دائم، وحذّرت العدو والأطراف الإقليمية والدولية من تداعيات المسيرة الاستفزازية، كما حذّر السيد حسن نصر الله العدو من المساس بالمسجد الأقصى، وأطلقت تهديدات مختلفة من محور المقاومة، الأمر الذي استدعى تحركاً دبلوماسياً أميركياً وغربياً وإقليمياً لا سيما الوسيط المصري، خشية تدهور الموقف الميداني وانزلاقه نحو مواجهة عسكرية، وهو السيناريو الذي يتعارض مع أهداف الإدارة الأميركية بخفض التصعيد في المنطقة وعدم صرف الأنظار عن الحرب في أوكرانيا، والتهديدين الروسي والصيني، ما دفع إدارة بايدن إلى الطلب من حكومة العدو التراجع عن تنظيم المسيرة، التي رفضت الطلب، ما يبقي سيناريو تطور الموقف إلى مواجهة عسكرية قائماً.
يرجع القرار الإسرائيلي بتنظيم المسيرة، رغم الضغوط الدولية، والخشية من التصعيد، وتدحرج الأحداث لمواجهة متعددة الجبهات، إلى عدد من الدوافع، منها رغبة بينيت الشخصية في استعادة تأييد جزء من قاعدته اليمينية، والاستعداد لليوم التالي لسقوط حكومته، إذ يدرك أنه بات قريباً؛ فبينيت يسعى لإنقاذ نفسه، بعد تهاوي شعبيته، وانهيار حزبه، بعد تقديم أغلب أعضائه استقالاتهم، والتي وصلت إلى فريق مكتبه.
اشترط المستوى العسكري الإسرائيلي قبل موافقته على تنظيم المسيرة، عدم التراجع عن مسار المسيرة، لأن ذلك يعني الخضوع مرة ثانية للمقاومة الفلسطينية، بعد التراجع عن مسيرة العام الماضي بسبب صواريخ المقاومة، وسيؤدي إلى الإضرار الشديد بصورة "الجيش" الإسرائيلي التي تهشمت منذ "سيف القدس".
تمثل الدوافع الشخصية والحزبية لرئيس حكومة العدو نفتالي بينيت، وسعي المستوى العسكري للعدو وقادة جيشه، لاستعادة "الردع" ، من خلال المضي في تنظيم "مسيرة الأعلام"، تمثل دوافع مهمة ساهمت في قرار تنظيم المسيرة، إلا أن السبب الرئيسي، يعود إلى رغبة العدو في إثبات سيادته على القدس، التي اهتزت منذ معركة أيار/مايو، بما يشبه خوضه معركة لفرض السيادة على القدس، وفلسطين عموماً، وهو ما انعكس في سلوك الاحتلال تجاه أي خطوة فلسطينية حتى لو كانت رمزية، كرفع العلم الفلسطيني، ودفعه للهجوم الجنوني غير المسبوق على جنازة تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وخوضه معركة أمام كاميرات الإعلام العالمي بهدف نزع العلم الفلسطيني عن النعش، حتى لو أدى إلى إسقاطه.
مشاهد المواجهة بين "جيش" العدو والفلسطينيين على رفع العلم الفلسطيني تكررت في أكثر من مناسبة، وبرزت في القدس ونابلس والنقب والناصرة وحتى داخل جامعة "بن غريون" الإسرائيلية، ما دفع وزير مالية العدو أفيغادور ليبرمان إلى معاقبة إدارة الجامعة مالياً.
بينما يخوض العدو ما يطلق عليه "معركة السيادة على القدس"، يخوض الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة معارك ومواجهات مع العدو، من أجل استعادة القدس وتحريرها، الأمر الذي يدفع المقاومة إلى تثبيت أحد أبرز أهدافها التي تحققت بعد معركة "سيف القدس"، وهو كبح إجراءات العدو ومواجهتها وتعطيل سلوكه التهويدي، في القدس والمسجد الأقصى.
تؤكد التطورات في فلسطين، بصرف النظر عن مستوى "مسيرة الأعلام" الصهيونية ومسارها ومآلاتها، والمزمع تنظيمها الأحد المقبل، أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تثبيت قضية القدس كعنوان وطني وقومي وإسلامي جامع، في الصراع مع العدو، لتصبح أي خطوة استفزازية للعدو في القدس والمسجد الأقصى، بمنزلة صاعق تفجير كفيل بإشعال المنطقة، الأمر الذي يستدعي استنفار الأطراف الدولية كافة، للتدخل والضغط على العدو، وتحميله مسؤولية التصعيد، وهو ما يبقي القضية الفلسطينية حاضرة، على الأجندة العالمية، ويجند مزيداً من المتعاطفين معها في الأوساط الشعبية، ويسهم في عزل الاحتلال الإسرائيلي ونزع الشرعية عنه.
يعتبر إخفاق العدو في حسم سيادته على القدس بعد 74 عاماً على احتلالها، رغم تمتعه بكل أدوات القوة والبطش والدعم الدولي، نجاحاً للشعب الفلسطيني ومقاومته، التي تمكنت من توحيد الساحات الفلسطينية كافة وربطها ببعضها، وتجنيد قوى المقاومة في المنطقة، وقطاع عريض من الأمة الإسلامية، خلف قضية القدس والمسجد الأقصى، إلى جانب تعرية "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، وتعزيز حالة الاستقطاب والخلاف داخل مجتمع العدو، حتى تحولت القدس من قضية تحظى بإجماع داخلي إسرائيلي، إلى قضية خلافية.
نجحت المقاومة الفلسطينية في تحويل أنظار العالم نحو القدس، وتصحيح اتجاه البوصلة الفلسطينية والعربية والإسلامية نحو القدس، واستطاعت المقاومة أن تفرض على العدو والعالم معادلات جديدة في القدس، حوّلت أي سلوك إسرائيلي استفزازي في القدس إلى كابوس، وبعد أن سعى العدو إلى تثبيت "مسيرة الأعلام" في القدس كاحتفالية اعتيادية وتقليدية كل عام، تحولت إلى خطوة تحتاج لتقدير موقف من أعلى دوائر صنع القرار السياسي والعسكري الصهيوني، وباتت المنطقة والعالم يترقب وينتظر، موقف المقاومة ورد فعلها، وكأنه يقف على قدم واحدة.
يسعى العدو وأجهزة المعلومات والاستخبارات لديه، إلى قراءة نوايا قيادة المقاومة، ورغم تقديره بأن "مسيرة الأعلام" ستمر دونما رد عسكري من المقاومة، لكن فشل أجهزة العدو الأمنية في توقع قرار المقاومة إطلاق الصواريخ نحو القدس العام الماضي، والذي شُبه بفشل الاستخبارات العالمية توقع انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي، يبقى هاجساً يضع العدو ودوائر صنع القرار لديه، في حالة انعدام اليقين وشكّ، ستزيد من حدة الانقسامات والمزايدات داخل أوساطه الحزبية والسياسية والأيديولوجية.