أزمة فنلندا والسويد الأطلسية:أردوغان ينتظر الثمن
د. علي دربج
لم تكن ازمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع كل من فنلندا والسويد الاولى، ولا يبدو انها ستكون الاخيرة. فالسيرة الذاتية لهذا الرجل تخبرنا ان الولايات الحكومية والرئاسية له، كانت حافلة بالخلافات والمشاكل، إذ لا يكاد يطوي صفحة إحداها مع دولة ما، حتى يفتح اخرى، كما يجري الان مع حلف شمال الأطلسي الذي تعتبر تركيا احد اعضائه، وتعد ايضا من اكبر المساهمين فيه على المستوى العسكري فيما يتعلق بعديد الجيش التركي.
كيف كانت علاقات تركيا التاريخية مع حلف شمال الاطلسي؟
لطالما كانت تركيا عضوًا مستقلاً في التحالف عبر الأطلسي. وتميزت علاقاتها مع الحلف بالتوتر، إذ هددت بالانسحاب من الحلف عدة مرات. حتى انه في العام 2009، رفض رجب طيب أردوغان السماح لأندرس راسموسن من الدنمارك بتولي منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ما لم تغلق الدنمارك شبكة تلفزيونية كردية. في النهاية تمت الموافقة على تعيين راسموسن، وتم إغلاق الشبكة بعد عام.
عارضت تركيا منح العضوية لليونان في عام 1952، ودخلت في صراعات متعددة مع جارتها الغربية على الرغم من أن كلا البلدين جزء من الناتو وانضما إلى الحلف في نفس ذلك العام.
وفي عام 2017، انسحبت تركيا من مناورات الناتو السنوية المشتركة بعد وضع صور لأردوغان ومصطفى كمال أتاتورك ، أول رئيس للجمهورية التركية، على أهداف معادية. ورغم اعتذار قائد الناتو عن الخطأ، رفض أردوغان إرسال قواته للمشاركة في التدريبات.
ماذا عن علاقات تركيا مع الادارة الامريكية الحالية؟
في الواقع، تجد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن صعوبة في إدارة العلاقات مع تركيا. فسيد البيت الابيض غير راضٍ عن سياسة تركيا تجاه سوريا، وذهابها نحو التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط. اما اكثر ما يزعج ويثير استياء واشنطن، فهو رفض اردوغان الانضمام إلى نظام العقوبات ضد روسيا.
وبناء على ذلك كله، وفي محاولة لهزّ العصا لاردوغان، وصف بايدن العام الماضي المجازر الأرمنية بأنها إبادة جماعية. وتعقيبا على ذلك، رأى أردوغان أن القرار فتح جرحا عميقا في العلاقات الأمريكية ـ التركية.
ومع ذلك، فإن هذه المناوشات والاستفزازات التركية بوجه امريكا، لا تعدو كونها مجرد غيمة صيف عابرة، فلا تلبث ان تعود الامور بين البلدين الى صوابها، خصوصا وان اردوغان يحرض على ضبط ايقاع العلاقات مع واشنطن. ولذلك فإن تصعيد التوتر مع الأطلسي الذي يفتعله الرئيس التركي خلال هذه المرحلة الحرجة من الصراع الروسي ـ الأوكراني، انما هدفه اساسا، دفع الولايات المتحدة الى التدخل والتفاوض مع انقرة.
يرى اردوغان أن بايدن سيكون قادرًا على الضغط على فنلندا والسويد للرد على المطالب التركية بشأن القضية الكردية وأيضًا للتراجع عن العقوبات المفروضة على بيع الأسلحة الأمريكية لانقرة، لا سيما أن الجيش التركي حريص على الحصول على المزيد من طائرات F-16 من الولايات المتحدة والعودة إلى مشروع تطوير F-35.
وما هي اسباب تصعيد أردوغان بوجه الاطلسي؟
عند التدقيق في الواقع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه تركيا حاليا، نجد ان هناك عدة أسباب وراء سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها أردوغان تجاه الأطلسي.
أولها: الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الصيف المقبل، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى سباق محموم وشرس سيخوضه الرئيس التركي مع المعارضة، وحتى احتمال خسارته بعد أن كان في السلطة منذ عام 2003.
فيما يتمثل السبب الثاني بالمعضلة الاقتصادية التي يواجهها اردوغان والمرشحة للمزيد من التفاقم الى حد أنها قد تهدد مستقبله السياسي، حيث يشهد الاقتصاد التركي حالة من الفوضى، فمعدل التضخم بلغ 66.9 في المائة، وهذا يعود الى سياسات أردوغان التي يصفها المراقبون والخبراء الاقتصاديون بـ"المتهورة" والتي دفعت الاقتصاد إلى حافة الهاوية، ويشعر الناس بسببها بالوجع. وعليه يعتقد سياسيون اتراك ان الأزمة الاقتصادية هذه، أجبرته على اعادة التواصل مع كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، و"إسرائيل" بعد أن قطع العلاقات معهم.
وتبعا لذلك، قام أردوغان بتهدئة السعوديين من خلال نقل محاكمة قضية قتل الصحافي جمال خاشقجي (بأوامر من ابن سلمان) إلى الرياض، والسفر إلى جدة للقاء ولي العهد محمد بن سلمان. وقد ساعد هذا التراجع في إنهاء المقاطعة السعودية للمنتجات التركية، كما يتوقع أن يسهل المزيد من الاستثمارات السعودية في تركيا.
اما السبب الثالث والاهم ـ ويرتبط بالوضع المالي المزري والصعب جدا ـ هو أن أردوغان يحتاج إلى دعم من الغرب أيضا، ويمكن أن تساعد قضية توسيع حلف شمال الأطلسي في هذا الامر.
انطلاقا من هذه النقطة، يعتقد اردوغان ان "الوقوف في وجه الغرب" بشأن الأكراد يمكن أن يساعده على تعزيز التصويت القومي. وبالتالي إذا سارت قضية حلف شمال الأطلسي بشكل جيد، قد يحقق الرئيس التركي تقدما او ربما فوزا في الانتخابات التي ستجرى في وقت لاحق من هذا العام.
ماذا عن علاقة تركيا بروسيا؟
لطالما امتهن اردوغان اللعب على التناقضات. تحرص تركيا على إدارة علاقاتها مع روسيا. وعلى الرغم من أن البلدين متنافسان إقليميًّا، إلا أن لديهما مصالح مشتركة بشأن مجموعة من القضايا، بما في ذلك الحفاظ على السلام والاستقرار في الجوار، خصوصا فيما يتعلق بدول مثل أرمينيا وأذربيجان وجورجيا.
إضافة الى ذلك، تعد تركيا زبونا رئيسيا للغاز الطبيعي الروسي. فخط أنابيب "ترك ستريم"، لا يزود انقرة بالغاز فحسب، بل يعمل أيضًا كطريق بديل للصادرات الروسية عبر البحر الأسود، مما يبقي أوكرانيا خارج المعادلة. لذلك كان أردوغان حريصًا بشأن عدم عزل روسيا تمامًا.
وتحقيقا لهذه الغاية، لم تفرض تركيا عقوبات على روسيا ورفضت دعم استبعاد روسيا من مجلس أوروبا، مع أنها قدمت دعمًا سخيًا لجهود الحرب الأوكرانية، بما في ذلك تزويدها بطائرات "بيرقدار الفتاكة" بدون طيار.
اكثر من ذلك، يزعم العديد من السياسيين الغربين، أن تركيا كانت أيضا ملاذا آمنا للأوليغارشيين الروس (المصطلح بات يستخدم بصورة أكثر شيوعا في وقتنا هذا للإشارة إلى مجموعة من الروس الأثرياء الذين برزوا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991) الذين تطاردهم العقوبات الغربية، وكذلك للاستثمارات الروسية.
فلا يزال من الممكن رؤية اليخوت الفاخرة الروسية راسية في المراسي التركية. ويبدو أردوغان حريصا على وضع نفسه كجسر بين بوتين والغرب، حيث يبدو أن المفاوضات هي السبيل الوحيد لإيجاد حل للحرب الروسية الأوكرانية.
وبناء على ما تقدم، من غير المرجح أن لا يذهب أردوغان في معارضته لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي إلى ما هو أبعد من ذلك. فتركيا ربما قد تتراجع بعد عن معارضتها، بعد حصولها على السعر المناسب، خصوصا ان ثمة مفاوضات جادة تجري بالفعل على قدم وساق، ولهذا يتحدث الدبلوماسيون والقادة الأمريكيون والأوروبيون مع نظرائهم الأتراك لإيجاد حل مقبول لأردوغان.
وعليه إذا استمر أردوغان في معارضته، يمكن للأعضاء الآخرين في الحلف تقديم ضمانات أمنية متبادلة لفنلندا والسويد ما يجعلهما عضوين بحكم الواقع في الناتو.
صحيح ان أردوغان مشهور باتباع سياسة حافة الهاوية، لكن من غير المرجح أن يتبع مسارًا انعزاليًا لفترة طويلة.