kayhan.ir

رمز الخبر: 151223
تأريخ النشر : 2022May28 - 20:20

أوروبا تدفع غالياً ثمن الهيمنة الأميركيّة عليها!

 

 د. عدنان منصور _

 لم تستطع أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، ان تفلت من نفوذ وتأثير الولايات المتحدة على قرارها المستقلّ السيادي، والاستراتيجي، إذ إنّ مشروع مارشال الاقتصادي الأميركي عام 1948، الذي هدف إلى إعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية، جاء بعد تدمير الاقتصاد الأوروبي، وانهياره، وكساده، وانتشار الفقر والبطالة، مما وفر التربة الخصبة لانتشار الشيوعية في دول أوروبا الغربية، لا سيما في فرنسا وإيطاليا، حيث كان الحزب الشيوعي فيهما فاعلاً ومؤثراً.

أمام هذا الوضع المقلق، أرادت الولايات المتحدة تحصين هذه الدول، خوفاً من ان يجتاحها المدّ الشيوعي الذي سيطر على أوروبا الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي.

 قبلت سبع عشرة دولة أوروبية غربية الاستفادة من المشروع، ورفضه الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية بتأثير منه. أنفق على مشروع مارشال خلال اربع سنوات، 13 مليار دولار بمقياس القوة الشرائية في ذلك الوقت، وكان أبرز المستفيدين منه: بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا الغربية، بلجيكا، النمسا، سويسرا، النرويج واليونان. أسندت مهمة تنفيذ المشروع الى الجانب الأميركي، وأشرفت على الإنفاق، هيئة أنشأتها حكومات أوروبا الغربية سُمّيت «منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي».

 كان مشروع مارشال الاقتصادي هذا، مقدمة لبداية التأثير الفعلي والنفوذ للولايات المتحدة في أوروبا، والذي تعزز بعد سنة مع إنشاء حلف شمال الأطلسي في 4 شباط عام 1949.

منذ ذلك التاريخ، أضحت أوروبا الغربية تدور في الفلك الأميركي، لتصبح الولايات المتحدة في ما بعد، المحرك والفاعل، والموجه الرئيس لسياسات وأهداف الحلف ودوله.

 لعلّ الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي، كان من أوائل المتنبّهين في أوروبا الى حقيقة أهداف السياسة الأميركية وتأثيرها على القارة الأوروبية، والدور الذي تقوم به في أوروبا والعالم. لقد انتقد ديغول السياسة الأميركية في فيتنام، ورفض الخضوع للمشيئة الأميركية. فقد انسحب من الحلف الأطلسي، ووفر بيئة مستقرة لفرنسا، وتمكن من الحفاظ على موقع متميّز لها على الساحة الدولية، وكان الرائد في الغرب باعتماده سياسة الانفتاح على الصين، ما جعل الكثيرين من الأميركيين يضعون ديغول في خانة العداء.

 ديغول وإن ظلّ حليفاً لواشنطن، إلا أنه رفض الخضوع لهيمنتها، حيث ذهب بعيداً عندما طالب عام 1967 من خلال تصىريح له نشرته صحيفة  France Soir، انه «يجب أن يحلّ الذهب مكان الدولار. فوضعه المهدّد، لا يجعل منه ضمانة في التبادلات العالمية».

 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار المنظومة الشيوعية، وظهور الاتحاد الأوروبي، لم تستطع أوروبا الموحدة الخروج من العباءة الأميركية، رغم مقومات الاتحاد الكبيرة بشرياً (500 مليون نسمة) واقتصادياً (ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حيث القيمة الاسمية وتعادل القوة الشرائية PPP البالغ 19 ترليون دولار عام 2021)، وعسكرياً بميزانية تتجاوز الـ 250 مليار دولار.

 لقد جعلت واشنطن من روسيا، فزاعة في وجه أوروبا. إذ كان هدف الولايات المتحدة، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تطويق روسيا وتحجيمها على الساحة الأوروبية والدولية، والعمل على استفزازها في أماكن عديدة وجرها الى أكثر من مستنقع، بدلاً من أن تبني معها علاقات متينة مبنية على المصالح المشتركة والثقة المتبادلة.

 كانت واشنطن المحرض والمحرك في أوروبا، وكانت الأخيرة، الأداة الطيعة في محاكاة السياسات الأميركية حيال روسيا وإيران وسورية وتركيا، وغيرها. إذ لم تكن واشنطن بعيدة عن تقسيم يوغوسلافيا، واحداث الشيشان، ولا عن الثورات البرتقالية في جورجيا وأوكرانيا، ولا عن دعم القوى اليمينية النازية القومية المتطرفة، لتجعل أوكرانيا ميداناً واسعاً للسياسات الأميركية الأوروبية، لتقويض الأمن القومي لروسيا، وزعزعة النظام والاستقرار فيها.

 لقد صوّرت البروباغاندا الأميركية ومعها الأوروبية، للعالم كله انّ روسيا هي المعتدية، وهذا ما يجافي الحقيقة ويضللها. إذ تعرف أوروبا جيداً أنه بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتوحيد ألمانيا، لم تحترم واشنطن تعهّداتها التي جاءت على لسان وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في 9 شباط 1990 أثناء اجتماعه بالرئيس السوفياتي غورباتشوف، من «ان واشنطن تتفهّم أهمية الضمانات للاتحاد السوفياتي والبلدان الأوروبية. وان الحلف الاطلسي لن يتمدد ولو بوصة باتجاه الشرق». كذلك ايضا، أعرب المستشار الالماني هيلموت كول في اليوم التالي للرئيس غورباتشوف، من «أنّ الحلف الأطلسي عليه أن لا يتخطى دائرة نفوذه».

 يعلم الاتحاد الأوروبي، انّ مستشار الأمن القومي الأميركي، زبيغنيو برزينسكي  Zbignew Brzezinski، دعا عام 1992 الى» السيطرة الكاملة لأميركا على أوكرانيا، لأنّ أوكرانيا هي محور قوة روسيا في أوروبا. واذا ما فصلت أوكرانيا عن روسيا، فلن تشكل هذه الأخيرة بعد ذلك تهديداً.

 أوروبا على يقين، انه منذ عام 2014، قتل 14000 روسي أوكراني في دونباسك على يد المتطرفين النازيين الأوكرانيين. كما انّ اتفاق مينسك لعام 2015 لم يحترمه الجانب الأوكراني. في حين، عززت واشنطن من القدرات العسكرية لأوكرانيا، مستفزة موسكو، من خلال نصبها منظومات صواريخ على أرضها.

 تعلم أوروبا أيضاً، انّ الرئيس الأوكراني زيلينسكي، تبنّى قانوناً عام 2021، يخوّل بموجبه الجيش الأوكراني، احتلال القرم بالقوة، مع العلم انّ شبه جزيرة القرم أعطيت من قبل رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي خروشوف عام 1954 الى أوكرانيا بموجب تقسيمات إدارية داخل الاتحاد السوفياتي، وهي في الأصل تابعة لروسيا! كما تعلم أوروبا، أن اتفاق شراكة استراتيجية وعسكرية بين واشنطن وكييف، وقع يوم 10 تشرين الثاني عام 2021، وهو اتفاق موجه في الأصل ضد روسيا ويستهدفها مباشرة، يتيح لكييف في ما بعد الانضمام للحلف الاطلسي، وهذا ما جعل الرئيس الروسي بوتين يعجل بضربته قبل أن يعزز الخصم قدراته وقوته، خاصة بعد ان عمدت واشنطن على نشر الصواريخ الاستراتيجية، وقيام الجيش والفصائل النازية الأوكرانية بمهاجمة دونباسك، في منتصف شباط 2022.

 تعلم أوروبا أيضا، ان طلب انضمام فنلندا والسويد الى الحلف الاطلسي، في هذا الوقت الحساس الذي يشهد حرباً في أوكرانيا، حيث تنخرط فيها كلّ الاطراف، يؤكد دون شك على أهداف وسياسات واشنطن، واستراتيجيتها، ونياتها المبيّتة لجهة تطويق روسيا في عقر دارها، ومن ثم إضعافها، والعمل على تقسيمها.

 لم تف واشنطن ولا أوروبا بتعهداتها بعدم توسيع الحلف الاطلسي، سيما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ومعه المنظومة الشيوعية وحلف وارسو، إذ عمدت واشنطن على توسيع الحلف شرقا مستهدفة بصورة مباشرة روسيا.

 ففي عام 1999، انضمّ كلّ من تشيكيا، هنغاريا، وبولونيا الى الحلف الاطلسي، وفي عام 2004، انضمّت اليه دول البلطيق لاتفيا، لتونيا واستونيا، بالإضافة الى بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا، وسلوفينيا. وفي عام 2009، انضمت اليه البانيا وكرواتيا، ثم مونتنيغرو عام 2017، ومقدونيا الشمالية عام 2020. بذلك يصبح عدد دول الحلف 28 دولة بعدما كان يضمّ 12 دولة قبل تفكك الاتحاد السوفياتي.

 جاءت أوكرانيا لتكشف النقاب مجدداً، بشكل قاطع، وخطير جداً، عن ما تبيّته واشنطن لموسكو وترمي اليه. إذ جعلت أوروبا الكبش الذي سيدفع الثمن الغالي، نتيجة تورّطها في الوقوف الى جانب أوكرانيا، مع ما ترتب عن هذا التورّط، من نتائج وانعكاسات سلبية على اقتصادات دول العالم، وبالذات على اقتصادات الاتحاد الأوروبي، ومعيشة شعوبه، وارتفاع أسعار السلع والطاقة والخدمات فيها، والتضخم الذي جاء نتيجة الدعم والإنفاق العسكري، والمساعدات المالية واللوجستية التي قدمتها لأوكرانيا، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، حيث كان لهذه العقوبات ارتداداتها المباشرة، وانعكاساتها القاسية على شعوب أوروبا.

 ألم يكن بمقدور الاتحاد الأوروبي، منذ سنوات، ان يكون له قراره السيادي المستقل، وأن يضع نهجاً بناء للتعاون الوثيق بينه وبين روسيا، عوضاً من أن يكون خلف الولايات المتحدة، تابعاً لها، تملي عليه، وتحركه وتوجهه، وتجبره على الالتزام بسياساتها!

 ألم يكن باستطاعته أن يتجنب تورطه غير المباشر في الحرب الأوكرانية الدائرة، وتجنب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، وهي عقوبات يدفع ثمن نتائجها العكسية القاسية؟!

 إلى متى سيظلّ الاتحاد الأوروبي رهينة قرارات الدولة العظمى، وهو الذي يعتبر نفسه صاحب القرار والسيادة و»الحريص» عليها؟!

 أثناء قمة التحالف العسكري الغربي في بروكسل عام 2018، طلب الرئيس الأميركي ترامب من الحلفاء في الحلف الاطلسي، مضاعفة الإنفاق العسكري سنوياً من 2% الى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، موجهاً انتقادات حادة لألمانيا بسبب معدلات أنفاقها الدفاعية العسكرية غير الكافية. فما كان على المانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها بعد ذلك، إلا ان ترفع معدل أنفاقها العسكري! وفي هذا السياق، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية ارسولا فون ديرلاين، يوم 18 أيار من هذا الشهر، عن عزم الاتحاد الأوروبي على زيادة نفقاته الدفاعية بقيمة 200 مليار دولار في السنوات المقبلة، وذلك على خلفية تطورات الاوضاع في أوكرانيا.

 واشنطن من خلال حرب أوكرانيا، تريد أن تؤكد بصورة قطعية للأوروبيين، انهم بحاجة ماسة اليها، أكثر من أيّ وقت مضى، وأنهم لا يستطيعون التحرك والابتعاد عنها، وانْ كانت أميركا تحارب من بعيد وبالواسطة على رقعة الشطرنج الأوروبية، وتحرك الدمى كيفما شاءت، رغم علمها المسبق، انّ روسيا لن تقبل بهزيمة في أوكرانيا مهما كان حجمها، وأنها ستنتصر، وأن الأوروبيين سيدفعون الثمن الغالي في هذه الحرب، وهم بالفعل يدفعونه حالياً.

 

 فمن هو الرابح من الحرب الأوكرانية؟! أوكرانيا ام روسيا، ام دول الاتحاد الأوروبي، أم الولايات المتحدة؟! لقد جعلت واشنطن الأوكرانيين والأوروبيين وقوداً لحربها ضدّ روسيا، وجعلت أوروبا الممول للحرب والداعم لها. والنتيجة أثمان باهظة جداً تدفعها أوروبا وأوكرانيا وروسيا على السواء، نتيجة استبداد سياسات دولة عظمى، لا تريد أن تقتنع أنّ زمن القوة الأحادية القطبية المحركة للعالم والسيطرة قد انتهى، وان دولا عملاقة صاعدة تشق طريقها بسرعة، لتضع حداً نهائياً لتفرّد واشنطن بالقرار العالمي.

 كان على الأوروبيين ان يأخذوا العبرة من وقائع التاريخ، وهو أنّ الصدام مع روسيا مآله في نهاية المطاف الى الفشل، وان استغرق وقتاً، وان سياسات أعدائها وإنْ حققت بعض النتائج، فسرعان ما تزول.

 لو كان رجل فرنسا التاريخي شارل ديغول، لا يزال حياً، لوجّه أصابع الاتهام الى الدولة العظمى، وهو الذي حمل في داخله مشاعر الاستياء الفرنسية من سياسات الولايات المتحدة الرامية الى الهيمنة على العالم في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة. هيمنة مبنية على منطق القوة، وعامل التفوق التكنولوجي، واستخدام القوة العسكرية!

 لقد كانت واشنطن في عهد الرئيس جون كندي تعارض اية قوة نووية أوروبية مستقلة، لكن الجنرال ديغول استطاع أن يؤكد على استقلالية القرار السيادي لفرنسا، وعلى مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في وجه الأميركيين.

 أليس بمقدور أوروبا اليوم ان تنتهج نهجاً استقلالياً عن واشنطن، بدلاً من ان تكون الأداة الطيعة لها، تهيمن عليها، وتجرّها الى مواقع لا تخدم مصالحها، ولا تعزز السلم والاستقرار في أوروبا والعالم؟

 لعلّ دول الاتحاد الأوروبي بعد الحرب في أوكرانيا، تأخذ العبر، حيث كان بإمكانها ان تكون عامل وفاق وسلام، بدلاً من ان تكون حصان طروادة في خدمة الولايات المتحدة، ما يجعلها تدفع الثمن الغالي، على انخراطها غير المباشر في حرب، هي بغنى عنها، حيث كان بإمكانها ان تتجنّبها، وتتجنّب تداعياتها الخطيرة التي ستلقي بظلالها القاتمة لوقت غير قصير على دول وشعوب القارة الأوروبية، اقتصاداً، ومعيشة، وسياسة وأمناً.