kayhan.ir

رمز الخبر: 150837
تأريخ النشر : 2022May21 - 21:21

ما الذي يحمله لنا المجلس النيابيّ الجديد

 

 د. عدنان منصور

 رغم كلّ حملات التجييش التي قامت بها القوى السياسية لحثّ اللبنانيين في الداخل والخارج، على المشاركة الكثيفة في الانتخابات، فإنّ نسبة المشاركة كانت ضعيفة، ودون التوقعات.

 مما لا شكّ فيه أنّ عزوف العدد الأكبر عن الإدلاء بصوته، مردّه إلى الشعور بالإحباط، وعدم ثقتهم بالمنظومة السياسية، وتحميلهم لها المسؤولية المباشرة عن انهيار الأوضاع في لبنان، والمأساة التي يعيشها المواطنون في الداخل على مختلف الصعد، والمغتربون في الخارج، الذين لم تحم المنظومة جنى أعمارهم.

 لا يمكن بعد اليوم، للقوى السياسية الرئيسة، أن تتعاطى بسلوك استعلائي، وبفائض من الثقة الفضفاضة، والعناد، دون الأخذ بالاعتبار المتغيّرات والمستجدات الجديدة على الأرض، ومواقف ووجهات نظر الآخرين.

 من يقنع المواطن المسحوق اليوم، بعودة العديد من الوجوه القديمة التي تتحمّل المسؤولية المباشرة عن الذي شهده لبنان خلال السنوات الأخيرة، من كوارث معيشية، ونقدية، ومالية، وصحية، وخدمية، وتعليمية، وامتناع هذه الوجوه عمداً، وعن سابق تصوّر وتصميم، عن اتخاذ الإجراءات، والقرارات الحاسمة لوقف التدهور، وملاحقة المسبّبين، والفاعلين، والمهرّبين للأموال، ونهب ودائع المواطنين، ورفع اليد السياسية عن القضاء، كي تأخذ العدالة مجراها الطبيعي، وتقوم بواجباتها على أكمل وجه؟!

 استحقاقات وتحديات خطيرة تنتظر لبنان، وتداعيات ستشق طريقها على أكثر من صعيد. فالضغوط الأميركية والإقليمية على لبنان لن تتراجع، ولن تتوقف، بل ستزداد حدة وقسوة. لا سيما بعدما فشلت الولايات المتحدة بعد كلّ الممارسات التي اتبعتها، من عقوبات، وتهويل، وتدخلات وضغوط، وشراء ذمم، ودفع أموال، وحملات إعلامية مركزة، من ان تسقط مكوناً سياسياً رئيساً، وتشويه صورته وتصفية الحساب معه، وتحجيمه من خلال الانتخابات، حيث استحالت عليها زحزحته عن مكانته، او النيل من رصيده الشعبيّ الكبير بأيّ شكل من الأشكال.

لذلك لا ينتظر اللبنانيون من واشنطن خطوات متقدّمة باتجاه مساعدة بلدهم للخروج من أزمته الخانقة الحالية، المالية ـ النقدية

والاقتصادية، وإنْ شهد المجلس النيابي وجوهاً جديدة تريح الإدارة الاميركية، وتتناغم معها.

 واشنطن تريد تغييراً سياسياً جذرياً يأخذ لبنان الى موقع آخر، يكون في عهدة سياساتها الإقليمية والاستراتيجية في المنطقة، وفي خدمة مشاريعها المتعلقة بالصراع العربي “الإسرائيلي”، وحركات المقاومة، والتطبيع مع الكيان “الإسرائيلي”، وصفقة القرن، والدور الإيراني المعادي لقوى الهيمنة في المنطقة، وتنامي الترسانة العسكرية الضاربة لإيران، والتحالفات الإقليمية وغيرها.

 نتائج الانتخابات لم تعكس ما أرادته فعلاً الإدارة الأميركية من لبنان.

لذلك، من غير المتوقع أن تقوم بإلغاء العقوبات، او تسهيل الدعم الاقتصادي والمالي الآتي من الخارج، أكان ذلك عبر البنك الدولي وصندوق النقد، او من قبل الدول المانحة.

 إنها مسؤولية اللبنانيين، وعلى الأخصّ مسؤولية المجلس الجديد، للقيام بما يتوجب عليه، بعيداً عن ضغوط وابتزاز بعض الدول الخارجية. إذ من غير المسموح والمقبول بعد الآن، التعاطي مع المشاكل الداخلية الحساسة، وقضايا الناس، وحياتهم المعيشية والخدمية باللامبالاة، والمزايدات،

والخلافات الداخلية.

 لم يعد ينفع السكوت والصمت، ولا تدوير الزوايا للتغطية على الفساد بكلّ أشكاله من هنا أو هناك. بل يجب وضع الفاسد تحت المجهر أياً كان موقعه، وأياً كانت الحجج الواهية التي تبرّر هذا الصمت والسكوت المعيب الذي يصيب بالصميم المصالح العليا للبلد، ويبدّد ثقة المواطنين بدولتهم ومسؤوليها.

 قبل أشهر من إجراء الانتخابات، ومن أجل امتصاص نقمة المواطنين العارمة عليها، لجأت الدولة الى استخدام مسكنات موضعية للحدّ من الأعباء الثقيلة عليهم، من خلال جرعات، وحوافز مخدّرة مؤقتة لها مفعولها القصير الأمد… لكن الآن وبعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي، يجد المواطنون أنفسهم محاصرين مجدّداً برياح ساخنة تهبّ عليهم من كلّ جانب، حيث بدأ مؤشر ارتفاع الدولار يعاود صعوده دون ضوابط، بالإضافة الى استمرار تدهور العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار، ليفقدهم الأمل من أيّ إصلاح وتغيير، طالما انّ الوجوه التي خبروها وعرفوا أداءها، وسلوكها، كانت السبب المباشر في تقويض أسس البلد، والتسبّب بمأساة شعبه.

 لقد كانت الانتخابات النيابية فرصة ذهبية أمام اللبنانيين للتغيير، بعدما عانوا ما عانوه من سياسات الذلّ، والنهب، والتجويع، والعبث بكرامتهم ومستقبلهم. فبعد إحجام الأكثرية الشعبية عن المشاركة في الانتخابات، ومشاركة آخرين في توصيل من أوصلوهم الى المجلس العتيد، يسمح لنا بالقول: أيها المواطن! انت المسؤول بعد الآن حيال كلّ ما يجري بحقك. لقد كان الخيار لك، وقد اخترت. فتحمّل نتيجة قرارك، لا يحق لك بعد اليوم ان تغضب، وتثور، وتشتم، وتلعن المنظومة الحاكمة، وتقفل طرقات، وتحرق مؤسسات، وتطوّق وزارات. إذ كان عليك أن تحاسب في صناديق الاقتراع مَن سرقك ونهبك، وأثرى على حسابك، وخطف منك آمالك وأحلامك، وأجبرك مكرهاً على مغادرة الوطن. كان عليك أن تصفي حسابك مع مَن وقف في وجه مشاريع القوانين التي تضمن حقوقك، ومن غطى بشكل مباشر أو غير مباشر، كلّ من شارك وساهم في سرقة المال العام وانهيار الوطن!

 أيها المواطن…

 تحمّل بعد اليوم صدى صوتك الانتخابيّ، واسأل نفسك بعد ذلك، ما الذي حققته بعد سنوات عجاف قاتلة مدمّرة؟! هل حققت فعلاً هدفك ومبتغاك! وهل أتيت بمجلس “ثوري” “تغييري” يعبّر عن طموحك وطموح أبنائك؟! أم انه مجلس لا يختلف عن سابقاته من حيث الشكل والمضمون بتركيبته الطائفية، والسياسية، والمناطقية، والإقطاعية، والعائلية، حيث الغالبية فيه مسؤولة عن مأساة وطن وعذاب شعب مقهور !

 قلناها مراراً، ونكرّر القول: ما دامت تركيبة النظام الطائفي، بكلّ سلبياته هي هي، فلا أمل ولا رجاء من الإصلاح في بلد تديره شبكة من الرأسماليين، وتسود فيه عقليات سياسية رجعية، قبلية عائلية، متخاصمة في ما بينها، تحرّكها النزعات الطائفية، والتعصّب والكراهية فيما الجميع يرفع شعارات العيش الواحد، وهم في الحقيقة، أبعد ما يكونون عن الشعور الأخويّ.

 هل يُعقل أن نسمع اليوم من أحد الفائزين في الشمال، أنّ همّه الأول يقوم على جمع بيت طائفته، دون أيّ ذكر لبرنامج عملي مفصّل ينهض بالبلد، باستثناء العناوين الشعبوية الفضفاضة المخصصة للاستهلاك المحلي! هذا الفائز لم يتوقف يوماً، عن صبّ حقده، وهجومه المبتذل على المقاومة “وعلى الاحتلال الفارسي”، قائلاً إنّ اللبنانيين “يتوقون لإعادة بناء الدولة التي دمّرها تحالف السلاح والفساد”! فما الذي ننتظره من هذا النموذج “التغييري” التصادمي المشبع بالغريزة الطائفية والكراهية، كي تكون له إنجازات يحققها، سوى تأجيج الخلاف والانقسام.

 من سخريات القدر أن نرى هذا الطاووس، وقد خال نفسه لوقت أنه زعيم على مستوى الوطن، فإذا به يقول بكلّ غرور، “انّ يدي ممدودة لكلّ السياديين والتغييريين”، مطالباً بـ “تضافر الجهود لتحرير لبنان من الوصاية الإيرانية”!

كان الأجدر بهذا الطاووس أن يحرّر نفسه من عمالته للخارج والارتزاق منه، والتوقف عن تقديم أوراق الاعتماد والطاعة والخنوع له.

 استحقاقات كبيرة أمام المجلس الجديد، وأمام كلّ النواب دون استثناء، لا مجال فيه بعد اليوم، للمزايدات والتذاكي، وتقطيع الوقت، ولفلفة مشاريع القوانين والنوم عليها.

 ما يريده اللبنانيون قوانين عاجلة، تضع حداً للانهيار، وتعيد ترتيب البيت اللبناني. قوانين غير خبيثة أو مفخخة تحفظ مصالح القراصنة في المصارف، ولا تضمن أموال المودعين كاملة.

 نريد قوانين عاجلة تلاحق الفاسدين، وتسترجع الأموال المنهوبة فعلاً لا قولاً، وتضمن بالكامل حرية واستقلالية القضاء، وتبعد اليد السياسية عنه.

 نريد قوانين جريئة تؤمن التنمية المستدامة، والحكم الرشيد، والإنماء المتوازن في المجالات الصناعية، والزراعية، والصحية والخدمية، والعلمية، وتفعيل الرقابة على المجالس والصناديق والمؤسسات، ووضع خطة شاملة للنهوض بالاقتصاد الوطني،

وبناء السدود، ومحطات الكهرباء، والتنقيب عن الثروات في المنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان، وتعزيز القدرات العسكرية للجيش، ووضع خطة دفاعية وطنية، قبل اجترار التصريحات العقيمة المطالبة بتطبيق القرار الأممي 1559، والدعوة الى سحب سلاح المقاومة قبل تحصين لبنان من اعتداءات العدو “الإسرائيلي”.

 نريد قوانين بعيدة عن المحاصصة الحزبية والمناطقية والطائفية، حتى لا تكون في خدمة الإقطاعيات السياسية، والاحتكارات المالية والتجارية. قوانين عاجلة لجهة وقف تدهور العملة الوطنية، واعتماد مجلس النقد، ليكون ضمانة لها، ما يتيح بعد ذلك، استرجاع ثقة العالم بالنظام المصرفي اللبناني، وثقة المودعين والمستثمرين على السواء.

 لا مجال امام المجلس الجديد لإضاعة الفرص، والدخول في السجالات العقيمة. فليكفّ الجميع عن توتير الأجواء، والتراشقات الإعلامية، والاتهامات المتبادلة، وتهجّم البعض على المقاومة وبيئتها، ليجعلها الشغل الشاغل له، وهو يعلم ضمناً أنّ الفأر لا يستطيع أن ينحت جبلاً.

 فهل يعي الجميع مسؤولياتهم ويعوا المخاطر المحدقة بلبنان! ومتى سننتقل من التقوقع المناطقي الى رحاب الوطن! من العمل الفردي الى العمل الجماعي! من الغيتوات الطائفية الى الآفاق القومية! من التحجّر الفكري السياسي الضيّق الى الفكر الأممي الإنساني الواسع !

 هل بإمكان المجلس العتيد، بوجوهه القديمة والجديدة، أن يخطو خطواته الشجاعة لإخراج شعب مقهور من المستنقع، حيث يتحمل الجميع المسؤولية الكاملة عما آل اليه

 اللبنانيون، نتيجة تقاعس العديد من المسؤولين، وانغماسهم في الصفقات، والسمسرات، والإثراء غير المشروع.

 متى سيسطر المجلس النيابيّ تاريخاً جديداً، يعيد احترام وثقة العالم بلبنان، بعد أن لوّثت سمعته زمرة من المتنفعين الفاسدين القابضين عليه، ما كان همّهم يوماً إلا المال الحرام، وانْ جاء على جثث المواطنين…!