أكراد العراق بين مطرقة أنقرة وسندان الـ"PKK"
عادل الجبوري
بينما تتواصل وتحتدم المعارك والمواجهات بين الجيش التركي وتشكيلات حزب العمال الكردستاني المعارض (PKK) في عدة محاور من اقليم كردستان بشمال العراق، تتفاقم معاناة عشرات ان لم يكن مئات القرى الكردية في مدن ومناطق مختلفة. وبحسب تقارير صدرت مؤخرًا عن منظمات غير حكومية "تسبب الصراع الدائر بين تركيا ومقاتلي حزب العمال الكردستاني خلال الثلاثة عقود الماضية باقليم كردستان بإخلاء نحو 600 قرية تقع غالبيتها في محافظة دهوك". وارتباطًا بذلك فإن آلاف البيوت قد دمرت، ناهيك عن أعداد هائلة من الحيوانات المنتجة قد هلكت والمزارع قد أبديت، بحيث لم تتمكن أي جهة من اجراء احصاء دقيق لمقدار الخسائر المادية والبشرية منذ اندلاع الصراع حتى الآن.
وطبيعي جدًا أن يخلف صراع مسلح متواصل بمختلف الأسلحة والمعدات قدرًا كبيرًا من الخسائر والاضرار البشرية والمادية، الى جانب الظروف والأوضاع الأمنية والاقتصادية القلقة والمضطربة لأعداد لا يستهان بها من الناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل من وراء كل ذلك.
تكمن الاشكالية الرئيسية في تورط العراق وتوريطه بمشاكل وأزمات خارجية، بضعف النظام السياسي وانشغاله بحروب وصراعات عبثية على مدى عقود من الزمن، وهذا ما ينطبق على نظام حزب البعث المنحل، وتحديدًا خلال الحقبة الزمنية التي تولى فيها صدام حسين مقاليد الأمور بالكامل ابتداء من تموز-يوليو 1979 وحتى سقوط نظامه في نيسان-ابريل 2003. وكذلك فإن ذلك ينطبق على النظام الذي تصدى لادارة شؤون البلاد فيما بعد. ولكن من زاوية اخرى، تمثلت بغياب الاستقرار والضعف وخضوع البلاد للاحتلال الاميركي، وتحول البلاد الى ساحة لتصفية الحسابات السياسية وتمرير الاجندات والمشاريع والمصالح الخاصة.
ولعل تركيا كانت أحد أبرز الاطراف التي وجدت الظروف مواتية والارضيات ملائمة لتوسيع وجودها وفرض نفوذها وتسجيل حضورها على الارض العراقية، تحت ذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (pkk)، وصيانة أمنها القومي، وبدلًا من أن تفلح السياقات والآليات والمسارات الدبلوماسية من قبل بغداد بكبح جماح التمدد التركي، فإنها بدت عقيمة وغير مجدية، لا سيما مع تكرار أنقرة طلبها من بغداد بإنهاء تواجد حزب العمال من الاراضي العراقية، لينتهي بالتالي كل شيء. ولا شك أن طلبًا من هذا القبيل، كان وما زال صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيل التحقق لعدة أسباب، من بينها الصعوبة البالغة في احكام السيطرة على مناطق جغرافية ذات طبيعة جبلية وعرة ومعقدة التضاريس، فضلًا عن أن الجيش العراقي التابع للحكومة الاتحادية، لا يمتلك منذ أكثر من ثلاثين عامًا -وتحديدًا بعد أن حظي الأكراد بسلطة ذاتية شبه مستقلة لادارة شؤونهم ابتداء من عام 1991 - القدرة على التواجد في أراضي اقليم كردستان بشمال البلاد، واللاعب الأمني هناك يتمثل بقوات البيشمركة الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني.
ولا شك أن عناصر حزب العمال الكردستاني وقياداته الميدانية، وجدوا في الظروف الأمنية والسياسية المضطربة في العراق عمومًا، واقليم كردستان على وجه الخصوص، أرضية مناسبة للتواجد والتمركز في مناطق متعددة، لم تقتصر مع مرور الزمن على المناطق الحدودية والمواقع الجبلية، وانما شملت العمق الجغرافي لمدن دهوك واربيل ونينوى، ولم تعد حساباتهم وأجنداتهم وطموحاتهم محددة بالجانب العسكري وتنفيذ عمليات استهداف للجيش التركي والاجهزة الاستخباراتية التركية، بل وصلت الى حد الدخول في صياغة ووضع المعادلات السياسية بين الفرقاء الاكراد العراقيين، والتحكم بمناطق واسعة، حتى أن وجود ما يسمى بقوات الدفاع الشعبي - الجناح المسلح لحزب العمال - واعلام الحزب وصور زعيمه المعتقل عبد الله اوجلان، بات أمرًا طبيعيًا جدًا في مساحات غير قليلة من الاقليم، ولعل ملف قضاء سنجار، وواقعه الأمني المرتبك، ودور الـ(PKK) في ذلك يعد مثالًا شاخصًا على حجم وطبيعة تمدد الأخير داخل العراق، لا سيما بعد اجتياح تنظيم "داعش" لمدينة الموصل ومدن عراقية اخرى من بينها سنجار في صيف عام 2014، وما تسبب به من اضطراب وخلط كبير للاوراق دفع ثمنه السكان المدنيون من الايزيديين والمسلمين والمسيحيين على السواء.
وفي الوقت ذاته الذي كان فيه نفوذ ووجود حزب العمال يتنامى ويتسع في شمال العراق، كان الجيش التركي هو الآخر يتمدد ويتوسع ويعزز وجوده بانشاء المزيد من المعسكرات والقواعد العسكرية الكبيرة الدائمة، والمحطات والمقرات الاستخباراتية، وتتحدث العديد من الاوساط السياسية والامنية عن وجود العشرات من المقرات والقواعد العسكرية التركية في دهوك واربيل وصولًا الى الموصل. ولا يتحرج كبار الساسة والعسكريين الأتراك عن الحديث بكل وضوح وصراحة عن وجودهم وانتهاكهم السيادة العراقية تحت ذريعة صيانة الأمن القومي وملاحقة الجماعات الارهابية التابعة لحزب العمال. وقد تطورت أساليب وأدوات العمليات العسكرية التركية في الأراضي العراقية، لتتسبب بالمزيد من الخسائر البشرية والمادية في صفوف المدنيين العزل، ناهيك عن نزوح وتشريد أعداد كبيرة جدًا من أبناء القرى والمناطق التي غالبًا ما تتحول الى ميادين للمواجهات العسكرية الساخنة.
وارتباطًا بحسابات وظروف الأمر الواقع، اضطرت القوى الكردية العراقية، إما الى الوقوف الى جانب أحد طرفي الصراع، أو التزام الصمت والاكتفاء بتبني مواقف سياسية واعلامية لا تغني ولا تسمن، وهي مواقف لا تختلف كثيرًا من حيث درجة التأثير في مسارات الأحداث عن المواقف الخجولة والمترددة واللامجدية للحكومات الاتحادية في بغداد.
ويبدو أن مختلف أطراف النزاع، المعنية بصورة مباشرة، أو المتورطة بصورة غير مباشرة، مستفيدة الى حد كبير من المواقف الدولية السلبية، سواء للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الاميركية، أو المؤسسات الدولية كمنظمة الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي التابع لها، وهي مواقف تحكمها مصالح وحسابات تتعدى كثيرًا الجوانب والأبعاد الانسانية والأخلاقية، وتتجاوز جغرافيا الشمال الكردي العراقي لتمتد الى عمق الجغرافيا السورية. ومثلما كان المدنيون الأبرياء ضحايا حروب وصراعات عبثية، ومشاريع تدميرية، لذا فإنه ليس من الغريب أن يقع أكراد العراق الآن بين مطرقة الجيش التركي وسندان حزب العمال، وليس من الغريب أن تتكرر مشاهد القتل والتدمير والتخريب والتهجير والتشريد بعيدًا عن صخب وضجيج صراعات وحروب الكبار حول قمم الهيمنة والتسلط والنفوذ.