هل تنهار أميركا أمام وطأة التحديات؟
عبير بسام
من يراقب تطورات الأوضاع في الولايات المتحدة الأميركية، سيرى أن البلاد تسير في حالة تدهور اقتصادي إلى جانب التراجع في المكانة العالمية. وهي اليوم بدأت بتلقي الهزائم الواحدة تلو الأخرى.
تلقي الحرب الروسية - الأميركية في أوكرانيا بثقلها على واشنطن، وهي منذ أكثر من شهر وحتى اليوم تفبرك الكذبة تلو الأخرى وتدفع بالمرتزقة للقتال في أوكرانيا من أجل حصد نصر صغير يعيد إليها هيبتها، وتقف عند حدود "الناتو" التي حددتها روسيا ولا تجرؤ على أي "دعسة ناقصة".
التراجع الاقتصادي مستمر منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن الحرب على الإرهاب في العام 2001 بعد هجمات الحادي عشر من أيلول. ثم جاءت في العام 2009 محاولات الديمقراطيين الفاشلة، في زمن باراك أوباما، للنهوض بالاقتصاد الأميركي المنهك بديون الحروب. ومرت البلاد بحالة من الكساد الاقتصادي لمدة 18 شهراً حتى عام 2009، وهي الفترة الأطول منذ الكساد الكبير في العام 1929، ما دفع إلى تسميته بالركود الاقتصادي.
التسميات تكتسب أهميتها بالنسبة إلى خبراء الاقتصاد، لكن هذا ليس منعزلاً عن السياسة، فتصعد أمم وتنهار أخرى بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وهذا العامل كان أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي.
الإنفاق على الحرب والتسليح وحده لا يكفيان لنهضة الأمم. وأمريكا أنفقت بلايين الدولارت في حروبها الخارجية منذ العام 2001 وحتى اليوم. ومع ارتفاع أسهم وأرباح شركات السلاح على حساب المرافق الحياتية وأسعار السلع، بدأ المواطن الأميركي يلمس النتائج في أسعار المحروقات والطعام والحاجات اليومية.
ولكن ما كان يجعل أمريكا تتماسك وتعود لتقف ولو عرجاء على قدميها، هو كونها صاحبة العملة الصعبة في العالم وخاصة منذ وضع برنامج "سويفت" للتعاملات المالية موضع التنفيذ في العام 1977، وذلك في ضوء تطور التجارة العالمية ونموها بشكل متسارع. ويكفي أن نعلم أنه حتى آذار/مارس العام 2020 كان البرنامج يشمل 200 دولة في العالم وحوالي 11507 مؤسسات مالية وبنكية. وهذا معناه أن الدولار كان يتحكم بالقدرة الشرائية لعملات 200 دولة في العالم، وأن ارتباط عملتها المقاسة بأوراق من القطن، المادة التي تصنع منها الدولارات، وليس باحتياطي الذهب، يجعل منها في لحظة ما لا تساوي الدخان الصادر عن حرقها، وسيدفع بالمتعاملين بها إلى الإفلاس.
بعد بوش الابن ووصول أوباما إلى السلطة، استمر الأخير بسياسات استعمارية من نوع آخر، أعادت العلاقة مع الإرهابيين من "القاعدة" وبناتها من "النصرة" و"داعش". وكشف كتاب صدر في العام 2018 بعنوان "الدراسات الشرق أوسطية بعد 11 أيلول"، وهو دراسة أكاديمية، أن الأميركيين هم من صنعوا الربيع العبري في العام 2011، وأنهم كانوا يحضرون لسقوط حسني مبارك في الشارع منذ العام 2008. وإذا أعجب الأميركيين ذلك أم لم يعجبهم، فإن الحروب التي يخوضونها حول العالم من افغانستان إلى العراق إلى سوريا فأوكرانيا اليوم، لا يمكنها أن تؤتي أكلها في عالم تغير. ويعد ما حدث مع رئيس وزراء باكستان عمران خان فضيحة أخلاقية.
منذ العام 2001 وحتى اليوم، تشن أمريكا الحروب المباشرة وغير المباشرة من أجل إعادة مجد السنوات العشر التي تفردت بها بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في العام 1989. ولكن مع قدوم جورج بوش الابن كواجهة في السلطة، "وقعت الفأس بالرأس"،. فقد حكم عهده بواسطة نائبه الرجل المغمور ديك تشيني، وكلاهما ساقا أمريكا نحو الهاوية.
لنستعرض رؤساء أميركا بعد بوش الابن، باراك أوباما واجهة أفريقية أميركية مميزة، تحول هو وزوجته ميشيل ليصبحا وكأنهما رمزان من هوليوود. دونالد ترامب، رجل المال المغرور، عمل لأربع سنوات تحت مشورة زوج ابنته الصهيوني الغر، وبنصائح بنيامين نتنياهو، وهو من اعترف مؤخراً بخيانة "اسرائيل" له واستغلالها لإدارته.
لقد تلقت أميركا، التي خرجت عظيمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد قيادة العالم في حرب الخليج الثانية في العام 1991، في عهد ولاية جورج بوش الأب، الضربة تلو الأخرى بعد اجتياح العراق وأفغانستان. وهي تعيش اليوم حالات تعيد إلى الأذهان ما حدث في فيتنام. خسائر في أرواح جنودها بسبب تضاعف العمليات ضدها في افغانستان والعراق حتى اضطرت للانسحاب من كلا البلدين. وفي الحقيقة أن أميركا ليس لديها أية خطط تجعلها تغادر سوريا والعراق، بعد انفضاح أمر قيادتها حرب الإرهاب في الدول العربية، بطريقة مشرفة أو مختلفة عن تلك التي غادرت بها أفغانستان.
لا تقف إهانات أمريكا عند الخروج المذل من الدول التي احتلتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، ولكنها اليوم تأخذ منحىً مختلفاً، فأمريكا اليوم تشهد ما لم يكن في الحسبان، وهو بدء خروج عملتها الشهيرة "الدولار" من التعاملات المالية حول العالم. اذ دخلت الولايات المتحدة حرباً جنت بها على نفسها، تماماً كما "جنت على نفسها براقش"، بسبب التلويح بالعقوبات المالية على العالم شمالاً ويميناً ودونما رادع، وسرقة أموال الدول المودعة في البنوك العالمية، وأثبتت أنها دولة لا تستطيع اللعب مع الكبار، فهي لم تستطع اللعب مع الصين وفرض التبعية عليها أو على دول العالم القوية. وأخيراً، تتململ وهي تراقب النمو الاقتصادي والعسكري في روسيا وإيران. واليوم، تراقب دول العالم وهي تفرض عملاتها الوطنية في التعاملات التجارية الكبرى ضاربة عرض الحائط بالتهديدات بالحصار والدولار، وآخرها كان القرار الإماراتي بوقف التعامل بالدولار والبدء بالتعامل بالدرهم في بيع النفط والتبادل التجاري العالمي. الإمارات، وهي الدولة الحليفة لأمريكا في الخليج وفي حرب اليمن وحروب "الربيع العربي" على طول وعرض البلاد العربية من سوريا الى لبنان الى العراق وحتى السودان ومصر وليبيا وتونس وكادت تصل إلى الجزائر، إنها قمة في الإهانات.
ولقد قلنا قبلاً إن العالم سيكتب أن نهاية الولايات المتحدة التي نعرفها ستبدأ بعد تدخلها السافر في سوريا واحتلالها المباشر لمناطق شرق الفرات. فالحرب الروسية - الأميركية أو الغربية في أوكرانيا هي حرب مؤجلة منذ العام 2014، وهي تداعيات للسخط الأميركي من الصعود القوي لروسيا وللصين أيضاً، فهي تحاول أن تضرب الجميع ببعضهم بعضا وأن تعيد سيطرتها على العالم وعلى أوروبا بالذات، وعبر دولة صغيرة في المساحة عظيمة في الصمود كما سوريا. ولكن ابتدأت أهم نتائج الحرب بالتكشف، ألا وهي بداية الاستغناء عن الدولار، وهي إهانة لعظمة أميركا وتراجع هيبتها العالمية، إهانة أخرى لا تملك أميركا القدرة فيها على الرد، فقد قضي الأمر وتم، والأكثر من ذلك أن أي تدخل عسكري في أية حرب مرتقبة سيكون فخاً لإهانات جديدة قد تأخذها نحو الهاوية، وهي لا تستطيع دفع أثمانها لا مادياً ولا معنوياً.