جليد موسكو لم يذب بعد
محمد أ. الحسيني
بات فولوديمير زيلينسكي يتصرّف وكأنه رئيس دولة كبرى، فهو من جهة يهدّد بأسقف مرتفعة، وكأنه يمتلك زمام المبادرة الميدانية في المواجهة ضد العملاق الروسي؛ ويفرض، معزّزاً بدعم عالمي غير مسبوق، أجندات سياسية وعسكرية وأمنية، ويرسم خارطة التطوّرات الدولية وكأنّ أوكرانيا أصبحت محور العالم. وتحوّل الممثل الكوميدي ضيفاً كبيراً في المنتديات والبرلمانات الدولية، يشرح ويوجّه وينادي بأوكرانيا على أنها "إسرائيل الجديدة"، ويطالب الدول بالحماية المطلقة على أطلال أشلاء ودمار شاركت قواته في افتعاله، وهي سياسة سبق أن نفّذها أسلافه الصهاينة في تبرير احتلال فلسطين.
ومن جهة أخرى يضع زيلينسكي نفسه في موقع المساومة، وكأنّه ينتظر على الضفة المقابلة من طاولة المفاوضات، ويؤكد أن لا حلّ للأزمة في أوكرانيا إلا بالتفاوض والحل الدبلوماسي، مستجدياً اللقاء مع القيصر فلاديمير بوتين باعتبار أنّه الباب الرئيسي لحلّ كل المشاكل، وتخليص العالم من شبح اندلاع حرب عالمية ثالثة. أما واشنطن البارعة في تسعير البؤر المشتعلة في العالم فهي حتى الآن تنجح في تسويق ترسانتها العسكرية بذريعة تمكين الحلفاء الأوروبيين والشركاء في "حلف شمالي الأطلسي" من الدفاع عن أنفسهم أمام الاجتياح الأرثوذكسي - السلافي القادم من الشرق والمدعوم من الامبراطورية الصينية الطامحة لغزو العالم، بحسب التصوير الأمريكي.
واشنطن ترسم معالم النظام العالمي الجديد
لم تترك الإدارة الأمريكية، ومن خلفها "حلفاؤها" الأوروبيون، سبيلاً إلى حصار روسيا إلا وفرضته منذ الأيام الأولى على انطلاق العملية الوقائية التي شنّتها موسكو في أوكرانيا، وفرضت خلال أقلّ من شهرين كمّاً هائلاً من العقوبات لم تكن موسكو تتوقّعه في مجالاتها ومستوياتها، وفق اعتراف مسؤوليها أنفسهم، وتعمل بشكل دائب على توريط الصين في أزمة الشرق والغرب، من خلال نكء الجرح المؤلم لبكين في تايوان، وتجنّد في هذا السياق حلفاءها في الشرق الذين يشكّلون نقطة استفزاز للعملاق الصيني، ولا سيما اليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا.
المواجهة ليست بين روسيا وأوكرانيا، وهذه المعادلة لم تكن غائبة في حسابات الإدارة الأمريكية قبل شهور أو سنوات من 24 شباط 2022، وهي الآن تطبّق مشروع إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد (New World Order) الذي تردّد على ألسنة الرؤساء الأمريكيين منذ عهد بيل كلينتون وصولاً إلى جو بايدن، باستثناء حقبة دونالد ترامب التي كانت مخصّصة لمعالجة الوضع الاقتصادي المترهّل في الولايات المتحدة، ولكن كيف سيكون شكل هذا النظام في ظلّ تداول سيناريوهات مرعبة باحتمال اندلاع حرب نووية، أو بانزلاق العالم نحو أزمة صحيّة طاحنة - لم تنجح جائحة كورونا بتحقيقها - بفعل حرب بيولوجية وجرثومية كانت تجهّز لها واشنطن انطلاقاً من أوكرانيا، وبدأت تتكشّف أوراقها في الوثائق التي نشرتها موسكو على الملأ، ولا نسقط من الحسابات الانهيار الاقتصادي العالمي الوشيك، الذي بدأت تتمظهر ملامحه في صرخات التحذير من الجوع في أوروبا بفعل المواجهة الكونية المرتقبة، والذي سيكون واحداً من المسبّبات الرئيسية للفوضى التي ستضرب الأنظمة العالمية؟
ألمانيا خارج السياق الأمريكي
إذًا، لم يعد الحديث مقتصراً على مراقبة تطوّرات الخارطة العسكرية على الأرض، مع تأكيد القيادة الروسية أن العملية مستمرة حتى تحقيق الأهداف، وأهمّها وفق ما أعلنته موسكو مراراً إخراج إقليم دونباس من دائرة حكومة كييف، ووصلها برّاً وبحراً مع شبه جزيرة القرم وبحر آزوف، فضلاً عن منع تحويل أوكرانيا إلى موقع عسكري أمريكي متقدّم على الحدود الباردة، وعليه فلا بد من مراقبة الإجراءات التي تقوم بها واشنطن في دفع أوروبا وبعض دول الشرق الأقصى إلى مواجهة روسيا ومعها الصين ولاحقاً كوريا الشمالية، في مخطّط تدميري شامل لا يجد معه معظم الأوروبيين بدّاً من السير به على "العمياني"، بلا حول ولا قرار.
وحدها ألمانيا شذّت عن هذا الانسياق الأهوج نحو المواجهة غير المحسوبة عسكرياً والأهم اقتصادياً، وتتبعها فرنسا بنسبة أقلّ وبخطاب متذبذب، إلى حين تحطّ نتائج الانتخابات رحالها، لتحدّد من الذي سيحكم في قصر الإليزيه، ويتّخذ القرار بشكل حاسم. وما يدفع برلين إلى انتهاج سياسة متباينة عن نظرائها الأوروبيين لا يتعلّق فقط باعتماد ألمانيا على موارد الطاقة الروسية - وهي موارد لم تنقطع أبداً، بل زادت وتيرتها بشكل مطرد بحيث حقق الناتج التجاري الروسي فائضاً بنسبة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة - بل لأسباب أخرى تتعلّق بقناعة المسؤولين الألمان أن لا أمن أوروبياً من دون روسيا، وأن المآل الذي ستصل إليه أوروبا، في حال اندفاعها في أتون الحرب، لن يكون سوى دمار أوكرانيا ومعها القارة العجوز، دون أن تؤدي الحرب إلى هزيمة الحلف الروسي - الصيني. كما أن سعار الكراهية الذي تروّج له واشنطن سيؤدي إلى نشوء أمم متحاربة ويقسّم العالم بين شرق وغرب تحكمهما العداوة وليس التوافق إلى أمد بعيد، خصوصاً مع سقوط نظرية القطب الواحد ونشوء أقطاب جديدة باعتراف أمريكي وأوروبي. ولا نغفل أن ألمانيا لم تسقط يوماً من حساباتها الخروج من قوقعة التبعية لأمريكا، وهي وحدها في أوروبا التي كانت تتجرّأ وتعارض "السيّد" الأمريكي حفاظاً على مصالحها الحيوية، فكيف لو أنها ترى نفسها تستحق أن تكون قطباً بين الكبار؟!
حرب صليبية جديدة لتدمير العالم
من المؤكد أن بايدن - أو من وراءه في الإدارة الأمريكية ممّن يخطّط ويرسم سيناريوهات التدمير - ماضٍ في حشر موسكو وبوتين في الزاوية، وسيندفع حتماً إلى توريط الصين في المواجهة النارية، فلا سبيل لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد سوى بإحراق القديم وبناء منظومة أخرى على أنقاضها، وقد مهّد لذلك باستباق الخطوات المرسومة من خلال إطلاق وصف "مجرم حرب" على بوتين، ويعمل الآن على تكريس تهمة ارتكاب "الإبادة الجماعية" وصولاً إلى وصمه بصفة "الإرهاب"، واستصدار القرارات المعلّبة في الأمم المتحدة، وصولاً إلى طرد روسيا من المنظومة الدولية نهائياً وعزلها ووضعها في خانة الدول "المارقة"، وهكذا تعيد واشنطن نبش مقولة "الحرب الصليبية الجديدة" التي أطلقها جورج بوش الابن بعد تفجيرات 11 أيلول الهوليودية لتبرير الاجتياح الأمريكي لقلب المنطقة العربية على تخوم الحدود الإيرانية.
جليد موسكو لم يذب بعد
مشكلة الأمريكي هي استغراقه في لعب دور الحاكم المتسلّط، واقتناعه بأنّه القادر على فرض قراراته على الدول والأنظمة في العالم، مستغلاً فائض القوة العسكرية والقدرة على التحكّم بالحركة المالية والتجارية في العالم. وقد نجح في هذا السياق في تعامله مع معظم أوروبا ومعظم الدول العربية، ولكنّه انهزم بشكل ذريع في مواجهته مع إيران، ولم يستطع أن يفرض هيمنته على سوريا ولبنان، ولا يثق في إمكانية تجيير هيمنته على الدول الخليجية لصالحه، ولم يستطع أن يحقّق شيئاً من ذلك في مواجهته مع روسيا حتى اليوم، وتالياً مع الصين وكوريا الشمالية. أما بوتين فقد أكّد بشكل صريح أن الحرب في أوكرانيا هي الخطوة الأولى لكسر التحكّم الأمريكي في العالم، وحتى الآن لا يبدو حاكم روسيا مستعجلاً لحسم المعركة، فالجليد عنده لم يذُب بعد، ولم يحن الوقت ليقول كلمته الأخيرة.