الصراع على أوروبا بين الولايات المتحدة والكتلة الأوراسية
حسن نافعة
لا جدال في أنه ستكون لهذه الأزمة انعكاسات بعيدة المدى على التحولات الجارية في النظام الدولي، وخاصة في ما يتعلق بشكل العلاقة المستقبلية بين ضفّتي الأطلسي.
للوهلة الأولى تبدو العلاقات القائمة حالياً بين الدول الواقعة على ضفتي الأطلسي في أحسن حالاتها، وذلك منذ التأسيس لحلف الناتو عام 1949. وبينما يرى البعض أن الأزمة التي ما تزال محتدمة على الساحة الأوكرانية، وخاصة عقب إقدام روسيا على شنّ الحرب في الـ 24 من شباط/ فبراير الماضي، أتاحت أمام إدارة بايدن فرصة ثمينة لإعادة رصّ صفوف هذا الحلف وتنظيمها من جديد تحت القيادة الأميركية المنفردة، يرى آخرون أن الولايات المتحدة هي التي نصبت الفخ الأوكراني، لا لروسيا فقط، بل للاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه، أملاً باستنزاف روسيا، من ناحية، ولإعادة إحكام القبضة الأميركية على أوروبا، من ناحية أخرى، وذلك من منطلق أن تحقيق هذين الهدفين يصبّ لصالح الولايات المتحدة وحدها، لا لصالح أحد غيرها، ويساعد في تمكينها من استعادة هيبتها المنفردة على النظام الدولي.
وبصرف النظر عمّا إذا كانت الأزمة المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية فرصة سنحت للولايات المتحدة وأحسنت استغلالها، أم فخّاً صنعته بنفسها من خلال عملية تخطيط محكمة، فلا جدال في أنه ستكون لهذه الأزمة انعكاسات بعيدة المدى على التحولات الجارية حالياً في النظام الدولي، وخاصة في ما يتعلق بشكل العلاقة المستقبلية بين ضفّتي الأطلسي. وهنا سنكون إزاء سيناريوهين لا ثالث لهما.
الأول: خروج روسيا منتصرة في هذه الأزمة، وفي هذه الحالة يُتوقع أن تبدأ العلاقة بين ضفتي الأطلسي بالتفكك تدريجياً إلى أن ينهار حلف الناتو تماماً.
الثاني: عجز روسيا عن تحقيق أي من أهداف الحرب التي شنّتها، أو استُدرجت لشنّها، على أوكرانيا. وفي هذه الحالة يُتوقع أن تؤدّي هزيمة روسيا ليس فقط إلى تمتين العلاقة بين ضفتي الأطلسي، وبالتالي تمكين الولايات المتحدة من استعادة هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، ولكن أيضاً إلى أن يصبح التفكك من نصيب روسيا الاتحادية نفسها، الأمر الذي سيفضي حتماً إلى وقف الزحف الأوراسي المتواصل نحو قمة النظام العالمي.
لم يكن تأسيس حلف الناتو، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعبيراً في الواقع عن لحظة تكامل أو التقاء طبيعي بين ضفتي الحلف، بقدر ما كان تعبيراً عن زحف أميركي متواصل نحو قمة النظام الدولي، يواكبه تراجع أوروبي متواصل أيضاً بعيداً عن هذه القمة. فبعد تمكّن الولايات المتحدة من إحكام سيطرتها على نصف الكرة الغربي، مستخدِمةً مبدأ مونرو الصادر عام 1823 كأداة لإبعاد أوروبا عن التأثير في هذه المنطقة من العالم لفترة طالت أكثر من قرن كامل، راحت تتطلع إلى السيطرة على نصف الكرة الشرقي، مستغِلّةً دورها في حسم الحرب العالمية الثانية لصالح الدول المتحالفة.
ولأن الصعود الأميركي تَواكَبَ هذه المرة مع صعود قوة دولية أخرى، ممثلة في الاتحاد السوفياتي الذي أتاحت الحرب العالمية أمامه فرصة فريدة للسيطرة على عدد كبير من دول أوروبا الشرقية، فقد أصبح حلف الناتو هو الأداة التي استخدمتها الولايات المتحدة لإحكام سيطرتها على أوروبا الغربية. هكذا وُلد نظام دولي ثنائي القطبية، انقسم فيه العالم إلى معسكرين، أحدهما شرقي يقوده الاتحاد السوفياتي ويضم الدول الأعضاء في حلف وارسو، والآخر غربي تقوده الولايات المتحدة ويضم الدول الأعضاء في حلف الناتو.
لم يكن النظام الدولي، الثنائي القطبية، والذي استمر أربعة عقود، نظاماً استاتيكياً من شأنه تجميد موازين القوى داخل المعسكرين المتصارعين، بل اتّسمَ بديناميكية شديدة أثرت على تحوّل موازين القوة فيهما وبينهما. فالصين، والتي بدت خلال الحقبة الأولى من عمر هذا النظام كأنها قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المعسكر الشرقي، وخاصة بعد نجاح الحزب الشيوعي في السيطرة على السلطة فيها عام 1949، ما لبثت أن انشقت عن الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي مكّنَ الولايات المتحدة من استغلال هذا الانشقاق، وخاصة بعد زيارة نيكسون الشهيرة للصين عام 1972، ومن ثم أسهم في إضعاف هذا المعسكر كثيراً، لينتهي الأمر بتصدّعه وانهياره، ثم بتصدّع وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه في بداية تسعينيات القرن الماضي. بل إن وضعاً شبيهاً كاد يتكرر داخل المعسكر الغربي بعد سنوات قليلة من وصول ديغول إلى السلطة في فرنسا. ففرنسا الديغولية، التي سعت بالتنسيق مع ألمانيا لتحويل أوروبا إلى قوة دولية مستقلة وغير منحازة لأيٍ من المعسكرين المتصارعين، راحت تتململ من الهيمنة الأميركية على الحلف، وسرعان ما انسحبت من جناحه العسكري عام 1966.
ولأن عمر النزعة الديغولية الاستقلالية في أوروبا كان قصيراً هذه المرة، فلم يؤدِّ الانشقاق الفرنسي عن حلف الناتو إلى تأثيرات مماثلة لتلك التي أحدثها الانشقاق الصيني من قبل داخل المعسكر الغربي، فقد استطاع حلف الناتو أن يحافظ على تماسكه النسبي، الأمر الذي مكّن الولايات المتحدة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من التطلع نحو الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، وهو ما تم بالفعل. ولا شك في أن الولايات المتحدة قد حرصت خلال فترة هيمنتها المنفردة على النظام الدولي، والتي كانت قصيرة نسبياً ولم تتجاوز عقدين من الزمن، على استخدام كل ما في حوزتها من وسائل لإحكام هذه الهيمنة. في مقدمة هذه الوسائل استخدام حلف الناتو للتوسع شرقاً، بهدف محاصرة روسيا ومنعها من محاولة استعادة النفوذ والمكانة اللذين تمتع بهما الاتحاد السوفياتي في النظام الدولي من قبل. غير أن التاريخ كانت له كلمة أخرى، مغايرة تماماً لكل الطموحات التي سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقها.
فقد اتّسمت حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بعوامل كثيرة، كان لها تأثير كبير في تغيير موازين القوى في النظام الدولي لغير صالح الولايات المتحدة. من أهمها:
أولاً: ارتكاب الولايات المتحدة أخطاءً متعددة استهدفت التعجيل في إحكام هيمنتها المنفردة على مجمل النظام الدولي، ولو باستخدام القوة المسلحة، وهو ما جسّده الغزو الأميركي لكلٍ من أفغانستان والعراق، الأمر الذي أسهم كثيراً في استنزاف موارد القوة الأميركية ومصادرها.
ثانياً: صعود الصين المذهل في النظام الدولي، اقتصادياً وتكنولوجياً، وبالتالي عسكرياً، إلى الدرجة التي باتت تتطلع فيها إلى احتلال المكانة الأولى على سُلّم هذا النظام، وخاصة على صعيده الاقتصادي. ويكفي أن نقارن هنا بين الوزن النسبي لكل من الصين والولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي عند زيارة نيكسون للصين عام 1972 بما هو عليه الآن، لندرك هذه الحقيقة بوضوح تام.
ثالثاً: تمكّنُ روسيا من إعادة بناء هياكلها ومؤسّساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى الدرجة التي دفعتها إلى تحدّي ليس فقط محاولات حصارها من جانب حلف الناتو، وهو ما ظهر بوضوح عبر تدخلها الناجح في الأزمات التي اندلعت في جورجيا عام 2008 ثم في أوكرانيا عام 2014، ولكن أيضاً من خلالها تحدّيها السافر للهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي باستخدام القوة المسلحة، وهو ما يظهر بوضوح الآن من خلال الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية.
تعتقد الإدارة الأميركية الراهنة، برئاسة بايدن، أن بمقدورها تحويل الحرب في أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، الأمر الذي قد يمكّنها من ضرب عصفورين بحجر واحد: استنزاف روسيا، من ناحية، أملاً بإضعافها وربما تفكيكها في مرحلة لاحقة، ثم التطلع بعد ذلك إلى إدارة صراعها الأكثر أهمية مع الصين، بعد أن تكون قد تمكّنت من قطع الطريق على أي احتمال لتحالف استراتيجي أوراسي يربطها بروسيا الاتحادية. غير أن فرص نجاح هذه الاستراتيجية تبدو ضئيلة، وخاصة أن الاتحاد الأوروبي، لا الولايات المتحدة، هو المرشح الأكبر لتحمّل عبء تكلفة المواجهة الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية.
لذا يمكن القول إن هذه المواجهة تعكس في حقيقة أمرها صراعاً يدور على قلب أوروبا ومكانتها، بين الولايات المتحدة من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى.
ربما يكون من المفيد هنا تذكير القارئ بأزمة صفقة الغواصات التي بلغت قيمتها 50 مليار دولار، والتي كانت قد أُبرمت بين فرنسا وأستراليا، ثم ضغطت الولايات المتحدة لإلغائها لصالح "تحالف أوكوس"، قبل فترة وجيزة من اندلاع الأزمة الأوكرانية الراهنة، حيث كادت هذه الخطوة تؤدي إلى تكرار انسحاب فرنسا من الذراع العسكرية لحلف الناتو، مثلما حدث في زمن ديغول عام 1966.
اللافت للنظر هنا أن ماكرون، الذي يقترب الآن كثيراً من عتبة الفوز في انتخابات الرئاسة الفرنسية بعد حصوله على المركز الأول في جولتها الأولى، يتبنّى حالياً رؤية شاملة لتطوير الاتحاد الأوروبي، تتمحور حول استقلاله الكامل، لا على الصعيد الاقتصادي فقط، بل على الصعيد العسكري أيضاً، وعلى وجه الخصوص. وفي تقديري أنه إذا استمرت الحرب الأوكرانية لفترة طويلة، وتمكّن التحالف الروسي الصيني خلالها من الصمود، فلن يكون من المستبعد عودة النزعة الاستقلالية الأوروبية على الطريقة الديغولية للظهور من جديد، ما قد يؤدي إلى تفكك حلف الأطلسي، لا تفكك روسيا أو انفصام التحالف الأوراسي كما تأمل الولايات المتحدة الأميركية.