سوريا وغربيّ آسيا.. مشهد مغاير بعد العودة إلى الاتفاق النووي
أحمد الدرزي
لن يكون العراق واليمن وسوريا ودول الخليج الفارسي وتركيا و"إسرائيل" خارج دائرة ترددات العودة إلى الاتفاق مع إيران.
تردَّدت أصداء الاتصال الهاتفي بين الرئيسين السابقين الأميركي باراك أوباما والإيراني حسن روحاني، في أثناء عودة الأخير من مطار نيويورك إلى العاصمة الإيرانية عام 2013، فأحدثت موجة زلزالية في العالم، تشبه التسونامي غير المتوقع، أصابت بصورة خاصة أولئك الذين لا يدركون كيف يتعامل العقل الأميركي البراغماتي مع مصالحه. فكيف سيكون العالم بعد إعلان العودة إلى الاتفاق النووي من جديد، إذا تمّ ذلك ولم يتم تعطيله؟ وما هي انعكاساته على سوريا، التي دفعت أثماناً باهظة، بعد الحرب عليها، نتيجةً للتموضع الجيوسياسي، وانكشاف هشاشة الوضع الداخلي، في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
أصبح من الواضح أن الحرب، التي شٌنَّت على سوريا، لم تكن نتيجةً للسياسات الداخلية التي تم اتِّباعها خلال العقود الماضية، ولم يكن هدفها نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما تم ترويج الأمر في بداية الحرب. فهذه الأسباب لم تكن سوى رأس جبل الجليد الذي يُخفي الأسباب الحقيقية لقوى دولية فاعلة، على رأسها الولايات المتحدة، التي لا يهمها سوى تأمين مصالحها الجيوسياسية، المرتبطة باستمرار هيمنتها على العالم، ومنع القوى الصاعدة، المتمثلة بالصين وروسيا، من تحقيق أهدافها في بلورة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات. أدركت أميركا أن هذا الهدف لا يمكن أن ينجح إلاّ عبر التحكم في منابع النفط والغاز، وخطوط انتقاله إلى الدول الأكثر تقدُّما واستهلاكاً، وخصوصاً القارة الأوروبية والصين، وهذا ما جعل سوريا مفتاح عقد التواصل للغاز القطري والغاز "الإسرائيلي" المفترض في اتجاه أوروبا، ومصدراً للغاز الكامن في الساحلين السوري واللبناني، وفقاً للرؤية الأميركية، والذي يمكن أن يشكّل بديلاً عن الغاز الروسي، الذي تعتمد عليه أوروبا إلى حد كبير. ويشكل أيضاً قيمة جيوسياسية في إطار الصراع على القارة العجوز، غير القادرة على حسم خياراتها حتى الآن.
تتعاطى الولايات المتحدة مع مصالحها وفق براغماتية قلَّ نظيرها في التاريخ، ومن دون أيّ ضوابط أخلاقية ومبدئية، الأمر الذي جعلها الأقل التزاماً بشأن العهود والمواثيق عندما تتعارض جزئياً مع مصالحها، فكيف إذا ما تعارضت كلياً، وهي تسلك كل الطرق من أجل تحقيق هذه المصالح، مهما كانت لاأخلاقية، ومهما تسببت بآلام وبؤس ودماء للشعوب.
من هذا المبدأ، فإن واشنطن لا تتعاطى مع الملف النووي الإيراني إلاّ وفقاً لطبيعة التهديدات والفرص، التي يمكنها أن تحصل عليها أو تخسرها، وهي لا تنظر إلى هذا الملف بصورة منفصلة عن تبعاته الجيوسياسية، على الرغم من التركيز في المفاوضات بعد أن رفضت طهران الخوض في دورها الإقليمي والصواريخ الدقيقة، ونتيجة إدراك واشنطن أن مستلزمات العودة إلى الاتفاق ستتجاوزه في اتجاه إعادة تشكيل منطقة غربي آسيا، بأقل الخسائر الممكنة، وخصوصاً أنها تدرك، تمام الإدراك، القيمة الجيوسياسية لإيران، في صراعها معها ومع الصين وروسيا.
من هذا المنطلق، تأتي الاندفاعة الأميركية نحو إنجاز العودة إلى الاتفاق النووي، ولو كان على حساب "إسرائيل"، التي تستشعر مخاطر فقدان دورها الوظيفي الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، مع تحول كيان الاحتلال، على نحو مطّرد، إلى عبءٍ على قوى المال اليهودي التي دعمته منذ أكثر من مئة وعشرين عاماً، وهي المنتشرة في أهم المراكز العالمية، وخصوصاً نيويورك ولندن. وهذا ما يمكن أن نلاحظه في الإدارة الأميركية الحالية، التي تضم أكبر عدد من اليهود في تاريخ الإدارات الأميركية المتعاقبة، ويقودون العودة إلى الاتفاق النووي، على الرغم من المعارضة "الإسرائيلية"، وهم مُمَثَّلون بروبرت مالي، مسؤول مفاوضات العودة.
أدركت طهران طبيعة المتغيرات الأميركية، وخصوصاً بعد أن استطاعت احتواء عقوبات الحد الأقصى، والتي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2018، وبعد أن حسمت خيارات الانقسام السياسي الإيراني الداخلي، وإسقاط الرهان على العلاقات الإيجابية بالدول الغربية، من أجل تحصيل مكانة أفضل في النظام الدولي الحالي، وخصوصاً بعد تشديد العقوبات وامتناع الاتحاد الأوروبي عن تنفيذ تعهداته، فنجح التيار المعارض للتوجهات للغربية، في الإمساك بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعمل على استثمار الموقع الجيوسياسي الإيراني، والذي يتميز بأهميته العالية في الصراع على مستقبل النظام الدولي، بين الإبقاء على القديم المتهالك، والعمل شريكاً أساسياً في ولادة نظام دولي جديد، متعدِّد الأقطاب والسياسات والثقافات.
وتدرك طهران حاجة الولايات المتحدة وكلّ من الصين وروسيا إليها، وهي تستطيع أن تنسجم مع نفسها من خلال تحقيق التوازن داخل مجتمعها المنقسم بين الشرق والغرب، عبر اتِّباع سياسات لا تُخرجها من النظام الدولي الجديد، بناءً على اعتبارها عنصراً أساسياً في نجاح ولادته، اعتماداً على موقعها وقدراتها، الأمر الذي يجعلها قادرة على تحصيل شروط أفضل في هذا النظام، وتقدّم، في الوقت نفسه، إلى الولايات المتحدة والغرب، بصورة عامة، الفرصة من أجل التخفّف من أعباء منطقة غربي آسيا المُنهكة لهما، للتفرغ لمواجهة الصين وروسا. وهذا لا يمكن أن يحدث، إلاّ عبر الإقرار بدورها الإقليمي الكبير من جانب كل الأطراف، بعد أن استطاعت انتزاع هذا الاعتراف من جانب كل القوى الدولية، بعد أكثر من أربعة عقود من الحصار والعقوبات.
سيتردّد صدى زلزال العودة في كامل أرجاء منطقة غربي آسيا وشمالي أفريقيا، وخصوصاً ان كل القوى الدولية والإقليمية تحتاج إلى الهدنة والاستقرار، في منطقة أرهقت الجميع في اضطراباتها وحروبها، ولم تجعل وَضْعَ الولايات المتحدة بالذات في مكان أفضل، بل على العكس من ذلك.
قد تتداخل المصالح الأميركية والروسية والصينية، بعد العودة إلى الاتفاق النووي، فروسيا ستكسب تعهداً من دولة إقليمية كبيرة، مفاده عدم الوصول إلى إنتاج السلاح النووي، وفي الوقت نفسه تستطيع التعاطي مع جارتها الكبرى خارج نطاق العقوبات المانعة للتواصل الطبيعي. وعلى الرغم من احتمال أن تجد لها منافساً في الجوار المحيط لها، فإنها ستضمن جاراً لم يخض أي حرب هجومية منذ أكثر من مئتي عام، الأمر الذي يؤمّن لها حدودها الجنوبية، ويخفف عنها حدوداً واسعة من الاختراق الغربي.
وفي الوقت نفسه، فإن الصين سوف تذهب بعيداً في العلاقة بإيران، التي تُعَدّ شرطاً أساسياً في مشروعها الكبير، "مبادرة الحزام والطريق". والعودة إلى الاتفاق النووي تتيح لها التعاطي مع إيران بحرية أكبر، من خارج دائرة هواجس العقوبات، التي تُعَدّ سيفاً مُصْلَتاً على شركاتها التي ترتبط بعلاقات تجارية واسعة مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
بالتأكيد، لن يكون العراق واليمن وسوريا ودول الخليج الفارسي وتركيا و"إسرائيل"خارج أصداء ترددات العودة إلى الاتفاق، الذي سيتيح للجميع إعادة التموضع وفقاً لمعادلات القوة، التي أفرزتها نتائج العودة إلى الاتفاق، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، صاحبة الدور السلبي في كلٍّ من اليمن والعراق وسوريا، والتي تشكل عقبة حتى الآن، عبر عدم اعترافها بحجمها الإقليمي الطبيعي، والمستند إلى القوة المالية فقط، واستمرار حروبها الناعمة والخشنة في كل المنطقة. وقد نشهد خسارتها من جديد في العراق، من خلال عودة المساكنة الموقّتة بين إيران والولايات المتحدة، وإيقاف عرقلة عودة سوريا إلى الإطار العربي، والاعتراف بهزيمتها في اليمن، بطريقة تحفظ ماء وجهها، وتحفظ مصالحها فيه.
ربما تُعَدّ سوريا من أكثر الرابحين من العودة إلى الاتفاق. فاعتراف الولايات المتحدة بقوة الدور الإقليمي الإيراني وفعاليته، سيكون سبباً في التعاطي الأميركي مع وقائع الإقليم عبر نظرة مغايرة، بعد أن عجزت عن تغيير مسارات الإقليم، على الرغم مما تسبّبت به من دمار وخراب في دوله. والأمر لا يمكن أن يحدث بصورة مباشرة، وإنما من خلال تغيير البيئة الإقليمية المحيطة بسوريا، والتي كان لها الدور المباشر في الحرب عليها، وخصوصاً تركيا التي سعت، عبر قيادتها الحرب على سوريا، إلى تحصيل أكبر حجم من المكاسب، وهي التي تحسب ألف حساب لنتائج العودة إلى الاتفاق النووي، الذي سيحدد الأحجام الإقليمية لكل دولة، في نظام إقليمي جديد، كانت تسعى فيه أنقرة، جاهدةً، لأن يكون بقيادتها وسيطرتها، وتطمح بعدها كي تصبح تركيا "القوة الدولية العظمى"، وهذا سيترك آثاره في طريقة تعاطيها مع الملف السوري، وخصوصاً بعد انقلابها على استراتيجيتها "صفر مشاكل"، مع دول الجوار، وتحوُّلها إلى موقع "كل المشاكل مع كل الجوار"، بما في ذلك الصدام غير المباشر مع روسيا في أوكرانيا وليبيا والقوقاز، وهذا سينعكس، بطبيعة الحال، على الموقف القطري المتحالف مع تركيا، والمعاند حتى الآن لفك الحصار والعقوبات عن سوريا. وكلا البلدين سيضطر إلى الاعتراف بالواقع الإقليمي الجديد. وبالتالي، تحوّل التعاطي مع سوريا نحو منحى إيجابي.
بالطبع، إن "الإسرائيلي"، الذي خسر معركة منع العودة إلى الاتفاق، سيضطر إلى قبول واقع إقليمي جديد، من منطلق أن نتائج العودة ستفرض ضبطاً للصراع في غربي آسيا، على نحو يشبه الهدنة، وأن ضوابط الاستقرار المطلوبة تتطلب التوقف عن الاعتداءات على سوريا، منعاً لحدوث انزلاقٍ نحو حرب قد تطيح المصالح الأميركية في الإقليم.
ستؤمّن العودة إلى الاتفاق النووي بيئة إقليمية وبيئة دولية، مساعدتين لسوريا، كي تخرج من كارثتها بالتدريج، خلال الأعوام المقبلة. أمّا الوضع الداخلي، فهو يحتاج إلى تغيير جذري عميق وهادئ، كي يتناغم مع إيجابيات المحيط الإقليمي المتغير بالتدريج، وهو رهن وعي السوريين وإرادتهم لإعادة بناء ما هدمته الحرب بأيديهم، والتي يمكنها أيضاً أن تكون أداة عودة بلدهم إلى الحياة من جديد، من خلال ردم الفجوة فيما بينهم.