عندما تحولت أوكرانيا منصة تحريض للانفصال عن "الاتحاد الروسي"
د. علي دربج
لم يكن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيام بالعملية العسكرية في أوكرانيا، والتي سبقها اعتراف روسيا باقليمي دونيتسك ولوغانسك، والمجازفة بالاستعداد لتحمل عقوبات اقتصادية قاسية، سوى نتيجة طبيعة متوقعة لأفعال القيادة الأوكرانية المزعزعة لاستقرار روسيا.
المسألة لا تتعلق فقط، بالاستغلال الغربي لأوكرانيا، للوصول الى مشارف الأراضي الروسية وتهديد أمنها القومي، من خلال توسيع حدود "الناتو" وتشريع أبوابه للدول التي كانت ضمن الاتحاد الروسي سابقًا، بل بالسلوك والنشاط الأوكراني الذي لم يقتصر على مدار سنوات، على كونها كرأس حربة في تبني السياسات الغربية والاميركية المعادية لموسكو (بما فيها الاستماتة للانضمام الى "الناتو"، لكنها أيضًا، تحولت خلال السنوات القليلة الماضية، الى منصة " لتحريض دول وشعوب الاتحاد الروسي على الانفصال، وذلك عبر فتح أراضيها لمنظمات وأشخاص يرفعون هذه الشعارات، وتعتبرهم موسكو خطرًا عليها.
تعود بدايات القصة، عندما أقدمت أوكرانيا عن سابق تصميم واصرار، على استفزاز روسيا، بعدما أعلنت عن ترحيبها باللاجئين السياسيين غير الروس من الاتحاد الروسي. ليس هذا فحسب، إذ أبدت كييف اهتمامًا ملحوظًا بالدول غير الروسية داخل الحدود الحالية للاتحاد، وصل الى حد استعدادها لتوفير موطن لحركة ترفع لواء حرية شعوب منطقة الفولغا الوسطى في روسيا. وهذا ما حصل لاحقا.
ففي العام 2018، أنشأت مجموعة من المهاجرين في أوكرانيا، من منطقة الفولغا الوسطى منظمة تدعى "حرية إيديل أورال". وأعلن المؤسسون أن المنظمة "ملتزمة" بأعمال غير عنيفة في إطار القانون الدولي لتحقيق سيادة الشعوب التي تنتمي للعرقيات الآتية: التتار، والبشكير، والأودمورت، وماريس وشوفاش، وإرزيان، وموكشان" وبالتالي إنشاء "اتحاد فولغا الأورال للشعوب الأصلية". أثار هذا التحدي من قبل أوكرانيا، حالة من الغضب والسخط الكبير في موسكو، فسارعت ـ قبل أيام فقط من التصعيد الحاد لحربها ضد أوكرانيا ــ الى مواجهة هذه الاستفزازت، باتخاذها تدابير مضادة، تمثلت باعلانها منظمة "إيديل أورال الحرة"، "حركة غير مرغوب فيها"، واعتبرت موسكو أن هذه المجموعة" تمثل تهديدًا للنظام الدستوري وأمن الاتحاد الروسي.
صحيح أنه كان لهذا الإجراء تأثير عملي ضئيل نظرًا لأن جميع نشطاءه تقريبًا يعيشون خارج روسيا رغم أن بعض المقيمين في المدن الأوكرانية قد يجدون أنفسهم محاصرين في الحرب، لكنه يفسر بعض المخاوف الكامنة للرئيس فلاديمير بوتين من أفعال أوكرانيا الخطيرة.
لم تكتف أوكرانيا بذلك، غير أنه وردًا على مطالبة موسكو بحماية مواطنيها في أوكرانيا، وهو أمر تفعله روسيا منذ عقود، صبت كييف ـــ منذ فترة طويلة ــ تركيزها على ما يسميه الأوكرانيون "الأوتاد"، وهي مناطق كبيرة مأهولة بالسكان الأوكرانيين داخل الاتحاد الروسي، وأهمها في أقصى الشرق.
سبق ذلك، وتحديدَا في العام 2017 اصدار الحكومة الأوكرانية قرارا، بتوجيه اهتمامها الى الدول غير الروسية داخل الاتحاد الروسي كحلفاء محتملين، في مقاومة ضغوط موسكو على كييف.
ما زاد الطين بُلة بالنسبة للكرملين، هو عندما طرحت هذه المنظمة، بالشراكة مع قيادات ومسؤولين أوكرانيين، مسألة وضع ممر أورينبورغ، الذي يفصل ماديًا، بين الشعبين التركيين في الفولغا الوسطى وكازاخستان. الأمر أخرج موسكو عن طورها نظرًا لحساسية هذه القضية التي ستجلب لروسيا مشاكل كبيرة بالتأكيد هي آخر ما تحتاجه في هذا الزمن.
وفي هذا السياق يقول لفلاديسلاف سكفورتسوف، الكاتب القومي الروسي في أوكرانيا، إن "أي تغيير في وضع ذلك الممر، من شأنه أن يشكل تهديدًا مباشرًا لسلامة أراضي الاتحاد الروسي.
وعلى غرار المعلقين الروس الآخرين، أعرب سكفورتسوف عن شكوكه في أن يكون الأوكرانيون هم من ابتكروا فكرة دعم غير الروس بمفردهم، أو دعم أولئك الذين يدعون إلى إزالة ممر أورينبورغ. إذ رأى أن الولايات المتحدة شجعتهم على القيام بذلك. وأكد المعلق الروسي أن هذا الأصل يجعل أي حديث عن إيديل أورال وممر أورينبورغ خطيرًا بشكل خاص، وهو أمر يجب على موسكو أن تقضي عليه في مهده قبل أن تزهر هذه الأفكار وتهدد البلاد برمتها.
وما هو الدليل على تورط أميركا؟
في الواقع تبدي أميركا اهتمامًا لافتًا بمنظمة "حرية آيدل والأورال"، ويتمظهر الاهتمام من خلال حقيقة أن الولايات المتحدة، في قرارها الصادر في أسبوع الأمم الأسيرة عام 1959، ضمت في قائمتها شعوب "إيدل أورال"، وكذلك "القوزاقية" التي اعتبرتها أسيرة. وبالفعل حصلت جميع الدول الاخرى المدرجة فى "قرار الكونغرس" الذى حدد هذا الأسبوع ـــ ومازال مميزا فى الولايات المتحدة ـــ على استقلالها.
وبناء على ذلك ترى موسكو أن واشنطن تريد ضمان استقلال ليس فقط شعوب "آيدل والأورال" بل أيضًا القوزاق الروس. وعليه فإن ادعاء الولايات المتحدة الحرص على احترام وحدة أراضي الدول بشكل عام، خصوصا تلك الموجودة في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي على وجه الخصوص، ومعارضتها أي تغييرات حدودية يتم تحقيقها بالقوة وحدها، يخفى أهدافًا مستقبلية مبيتة، ليس أقلها دفع شعوب هذه الدول الى المطالبة بالاستقلال عن الكيان الاتحادي الروسي.
من هنا جاء التحذير الذي أظهرته موسكو من خلال إدانتها لمنظمة "حرية آيدل والأورال" وأهدافها الأسبوع الماضي (قبل الحرب) والذي يؤكد مدى حساسية إثارة هذه القضية بالنسبة للكرملين. إذ تخشى موسكو أن تصبح قضية "آيدل والأورال" بسهولة نموذجًا للتحركات الأوكرانية في أماكن أخرى، خاصة في شمال القوقاز.
ما يجدر التوقف عنده، أنه الرغم من الغضب الروسي، واصل العديد من الأوكرانيين التزامهم بدعم شعوب "آيدل والأورال" ودول أخرى داخل الاتحاد الروسي، وفي مقدمتهم المعلق في كييف بافلو بودوبيد. الذي كان نشر في عام 2018، مقالًا أكد فيه أن "آيدل والأورال" هي كعب أخيل (اي نقطة ضعف مميتة) في الاتحاد الروسي.
انطلق بودوبيد في رؤيته الانفصالية، على انه إذا انهارت ترتيبات موسكو هناك، فستبدأ عملية خروج الجمهوريات الست من تلك المنطقة. بالنسبة له لا تزال موسكو تسيطر حتى الآن. ولكن في المستقبل قد لا يحدث ذلك.
ويضيف بودوبيد عدد الروس هناك وفي كازاخستان المجاورة آخذ في الانخفاض، واهتمام تركيا بالمنطقة آخذ في الازدياد. وبحسب قوله ، "إذا كانت أوكرانيا مهتمة بالنصر على روسيا، فنحن بحاجة للتفكير في الوسائل غير العسكرية للتأثير على العدو. إن أفضل ما في الأمر هو دعم تطلعات شعوب "آيدل والأورال" وتطلعات الشعوب الأخرى في الأماكن التي تسيطر عليها موسكو الآن".
علاوة على ذلك، جادل Podobed بأن كييف يجب أن تتخذ ثلاث خطوات: الأولى إنشاء مركز تحليلي في أوكرانيا يركز على منطقة الفولغا الوسطى . الثانية إنهاء أي حديث إضافي عن احتمال تسليم قادة فولغا الأوسط الذين يطلبون اللجوء في أوكرانيا. والثالثة دعم تحركات "حرية آيدل والأورال"، التي يمكن العثور على ممثليها ليس فقط في أوكرانيا ولكن في عدد من دول الاتحاد الأوروبي.
المفارقة، انه حتى ما قبل الحرب كانت كييف اتخذت خطوات في جميع هذه الاتجاهات الثلاثة، لكن ما لم يكن بحسان قادتها، ان بوتين بتر يدها قبل ان تمتد للقضاء على ممر أورينبورغ كما تشتهي، والذي لطالما اعتبرته مفتاح المستقبل ليس فقط لشعوب "آيدل والأورال" ولكن للأوكرانيين والغرب أيضًا.
في الختام، ما حصل لاوكرانيا ـــ التي وجدت نفسها وحيدة بعدما تخلى عنها الغرب الذي استخدمها كحصان طروادة لتنفيذ مشاريعه التفتيتية والتقسيمية ضد روسيا ــ كان درسا قاسيا جعلها ايضا عبرةً، لكل الدول التي تفتح ارضيها للغرب واميركا وتحولها منصة لاطلاق الفوضى ونشر التهديد للبلدان الأخرى خصوصا جيرانها. التاريخ مليىء بالعبر فهل من يعتبر؟