هكذا تسوّق أميركا لحروبها.. وتشيطن روسيا
د. علي مطر
منذ ما قبل الدخول الروسي إلى شرق أوكرانيا، لحماية إقليم دونباس، بدأت واشنطن في خطابها السياسي تسوق لمصطلح "الغزو الروسي" لأوكرانيا، وتعمل على تغيير الحقائق والمفاهيم في الوجدان الأوروبي والعالمي، للقول إن روسيا على وشك الاعتداء على الأوكرانيين. أرفدت الإدارة الأميركية ذلك بحملة دعائية وإعلامية مركّزة، ووظفت للهدف وسائل إعلامية كبرى، إلا أنها لم تتحدث عن حقيقة الأسباب التي تدفع روسيا للدخول إلى أوكرانيا.
مع بدء الدخول الروسي إلى أوكرانيا بشكل فعلي، عادت نفس وسائل الاعلام الأميركية الكبرى للعمل على تسويق مصطلح الغزو الروسي، وتحميل موسكو مسؤولية الأزمة، وبدأ الغرب باختلاق أسباب لتحميل روسيا مسؤولية الأزمة، والعمل على توحيد العالم ضدها، رغم إعلانها أنها تدافع عن أمنها القومي ولم تتعرض للمدنيين.
في مقابل ذلك، كانت روسيا تؤكد أنها ليست بصدد القيام بغزو كما يتم تصويره، كما أن السبب الرئيس الذي دفعها إلى العملية العسكرية، هو تهديد الأمن القومي الروسي من قبل الغرب، حيث استخدمت واشنطن أوكرانيا مطية لنسف مبادرة الضمانات الأمنية التي تطالب بها موسكو بشأن توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو". إضافة الى تهديد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرًا بأن بلاده سيكون لها كل الحق في أن تصبح قوة نووية، وقال "سيكون لأوكرانيا كل الحق في الاعتقاد بأن مذكرة بودابست لا تعمل وأن جميع القرارات لعام 1994 والتي يجب تنفيذها بالجملة باتت موضع شك". ومذكرة بودابست هي وثيقة تضمن موافقة أوكرانيا وبيلاروس وكازاخستان على تفكيك ترساناتها النووية والتوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) والتي تسمح فقط لخمس دول في العالم بحيازة الأسلحة النووية، وهي: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
أولًا: التعامل بمعايير مزدوجة
يأتي الحديث هنا عن التعامل بمعايير مزدوجة، فيما يتعلق بالسياسة الدولية، والأمن القومي للبلاد، واستقلال وحماية السلامة الإقليمية للدولة، حيث إن واشنطن هذه التي تشن الدعاية وتستخدم البروباغندا الإعلامية، هي الأولى عالميًا بغزو واحتلال الدول، فيما تحمي دولًا أخرى حليفة لها منتهكة للقوانين الدولية، وتسقط الأنظمة التي لا تتبنى رؤيتها وسياستها، بينما تحاصر وتقتل وتعاقب كل من يواجه سياسة الهيمنة التي تتبعها.
لقد شنت الولايات المتحدة العديد من الحروب في العالم، خلفت وراءها ملايين القتلي والجرحى، بدءًا من القصف الذرّي على هيروشيما وناجازاكي في هجوم عنيف شنته في نهاية الحرب العالمية الثانية في آب 1945، ومن ثم تدخلها في حرب فيتنام بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ التدخل منذ عام 1955 إلى عام 1973، وقد خلفت الحرب وراءها مئات ملايين القتلى والجرحى والمشردين.
لم تكتف واشنطن بذلك الحد، فدخلت عقب انهيار الاتحاد السوفياتي - لكي توسع هيمنتها على النظام الدولي - إلى الخليج عبر حربها التي شنها جورج بوش الأب تحت اسم "درع الصحراء" ومن ثم "عاصفة الصحراء" منذ آب 1990 حتى شباط 1991، لتخلف وراءها حصار بلد كامل وتجويع شعبه وقتله، تحت مسميات تستسيغها وتستخدمها من أجل مصالحها.
ثانيًا: الصومال وأفغانستان والعراق في العاصفة الأمريكية
لم تكتف واشنطن بهذا الحد، بل إن سياسة الهيمنة جعلتها تتدخل بدول أخرى، وقد بدأ التدخل العسكري الأمريكي في الصومال في آب 1992، عندما أرسل الرئيس جورج بوش الأب 400 جندي وعشر طائرات نقل C-130 إلى المنطقة تحت مسمى دعم جهود الإغاثة متعددة الجنسيات التابعة للأمم المتحدة. وفي كانون الثاني 1992، أطلقت الولايات المتحدة عملية "استعادة الأمل"، حين قامت عناصر من مشاة البحرية الأمريكية بسرعة بتأمين السيطرة على ما يقرب من ثلث مقديشو بما في ذلك الميناء والمطار، ومن ثم دخلت في حرب مع محمد فرح عيديد في مقديشو.
وفي 3 تشرين الأول 1993، أطلقت فرقة رانجر، المكونة من نخبة الجيش الأمريكي والقوات الجوية وقوات العمليات الخاصة البحرية، مهمة تهدف إلى القبض على عيديد واثنين من كبار قادته. وتتألف فرقة الحارس من 160 رجلاً و19 طائرة و12 مركبة. وعلى أثرها حصلت حرب مقديشو، التي أدت إلى مئات القتلى والاف الجرحى. اليوم، لا تزال الصومال واحدة من أكثر البلدان فقرًا نتيجة الحرب التي حصلت.
وصلت النوبة من الإجرام الأميركي، والحروب التي تفتعل من أجل تثبيت الهيمنة إلى أفغانستان، حيث بدأ الغزو بعد أحداث 11 أيلول 2001، وتحولت أفغانستان إلى دولة تشبه الصومال ايضًا، وخلفت الحرب آلاف القتلى والجرحى والمشردين، وغزا الإرهاب أفغانستان بسبب الوجود الأميركي. وربما بدا القاسم المشترك بين الحالتين الأفغانية والصومالية متجليًا في حقيقة أننا بصدد الحديث عن بيئتين هما الأكثر دمارًا، في الوسط الآسيوي كما في الشرق الافريقي، كل ذلك لم يشهد انتقادات حتى من المجتمع الدولي، ودائمًا ما كانت الإدارة الأميركية بسيطرتها على الأمم المتحدة تحاول الحصول على قرارات تسوغ لها حروبها.
أرادت واشنطن التوسع أكثر في منطقة الشرق الأوسط، وعادة وشنت حربها على العراق في آذار 2003، تحت حجة دعم العراق للإرهاب ووجود أسلحة الدمار الشامل لديه، وسقط خلال الحرب ما يقارب مليون شهيد وجريح، وقد تم تحويل العراق إلى دولة فاشلة، فضلاً عن إسقاط مؤسساته وعلى رأسها مؤسسة الجيش، ومن ثم فيما بعد تم إدخال تنظيم "القاعدة" إليه، ودعم تأسيس تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي أعطى واشنطن حجة للبقاء في هذا البلد العربي إلى اليوم، كما بدأت بالتدخل في سوريا وإدخال قواتها إلى هذا البلد والسيطرة على جزء من أراضيه وسرقت آبار النفط فيه.
لم تكتف واشنطن بتغيير الأنظمة من خلال الحروب، بل بدأت بشن حروب من نوع آخر، تحت مسمى ما يعرف بأدوات الإرغام غير الصلبة، من خلال الثورات الملونة لإسقاط الأنظمة، كما حصل على سبيل المثال في الثورات الملونة في العالم العربي، ولا ننسى ما حصل في لبنان عام 2019.
ورغم ما تقوم به واشنطن، إلا أنه يتم التعامل من خلال الكيل بمكيالين، واستخدام المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي لتبرير كل الحروب الأميركية، والتدخل في شؤون الدول. ولا شك أن ما يحصل في أوكرانيا اليوم لا ينفك عما تقوم عليه سياسة الهيمنة الأميركية، فإن الإدارة الأميركية هي من دعمت الثورة الملونة في أوكرانيا، وأسقطت الرئيس المنتخب من قبل الشعب فيكتور يانوكوفيتش وأوصلت فولوديمير زيلينسكي لكي تتحكم به و"تغربن" من خلاله أوكرانيا، ومن ثم تبدأ بالعمل على نشر الأسلحة الغربية فيها وضمها لـ"الناتو"، لكي تشكل من خلالها تهديدًا للأمن القومي الروسي، وتعمل على احتواء روسيا ومواجهتها عبر أوكرانيا.