مواطن القوة في المفاوضات النووية والدور الإيراني المرتقب
هدى رزق
من هنا، تشكَّل الدور الإيراني الّذي يعدّ أحد أهم معالم سياستها الخارجية، والذي يجعل منها "دولة دور".
النظام الإيراني ثوري، وهو يسعى إلى التغيير ويلتزم بمشروع إسلامي عالمي، ما يشكّل سبباً لكل من أميركا و"إسرائيل" للوقوف ضده ومحاصرته. وعلى الرغم من الحصار، اكتسبت إيران قدرات علمية وعسكرية ومكانة سياسية في المنطقة والعالم، فقد دعمت المقاومة في كلٍّ من لبنان وفلسطين، انطلاقاً من وعيها بدورها، وبدافع من التزاماتها الإسلامية، وإخلاصاً لمبادئها، وتقدّمت في العراق واليمن انطلاقاً من مشروعها التغييري ونصرةً للمظلومين.
ارتبط تاريخ إيران السياسي والاقتصادي بموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي حدَّد دورها، إذ إنها تقع في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وترتبط بحدود مع مجموعة من الدول، هي العراق وتركيا وأفغانستان وباكستان، وجمهوريات آسيا الوسطى، أرمينيا وأذربيجان وتركمانستان، إضافةً إلى حدود بحرية تطلّ من خلالها على منطقة الخليج وبحر قزوين وبحر العرب. وقد أتاح هذا الموقع لإيران مجالاً للانخراط في الكثير من الدول المجاورة. من هنا، تشكَّل الدور الإيراني الّذي يعدّ أحد أهم معالم سياستها الخارجية، ويجعل منها "دولة دور".
منذ بداية الثورة الإيرانيّة، دفع نظام الجمهورية الإسلامية ثمن انقطاع علاقات إيران مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وأصبح محاطاً بوجود عسكري أميركي من كل الاتجاهات. ورثت إيران الثورة الصراعات التاريخية للدولة الإيرانية، إضافةً إلى ازدياد الصراع في ظلِّ المتغيرات التي سادت في المنطقة منذ العام 2001 ولغاية اليوم، إذ سعت "إسرائيل"، وما زالت، لفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة.
أما إيران، فهي القوة المناوئة، إذ تعتمد سياسة ممانعة بديلة، في حين تؤدي تركيا دور الموازن- المنافس على الزعامة الإقليمية، وبدرجات تتفاوت بين القوة الناعمة والخشنة. هذه الخريطة الواضحة تعبر عن مشروعين إقليمين تبلورا، وهما المشروع الصهيوني – الإسرائيلي، والمشروع الإيراني – الإسلامي. أما المشروع التركي، فهو ما زال محكوماً بواقعه الأتاتوركي – العثماني، من دون تحقيق مشروع يعبر عن طموحاته، وهو ما لم يمنع تركيا من التحرك باستقلالية لتحقيق مصالحها القومية، انطلاقاً من المشروع السياسي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب إردوغان.
وفيما تسعى "إسرائيل" لتعميق الاستقطاب في العالم العربي من أجل تشكيل "محور الاعتدال العربي" الذي يضم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، تسعى إيران إلى كسب "محور الممانعة" أو "المقاومة"، وخصوصاً سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وجميع قوى المقاومة العربية.
تسعى "إسرائيل" لتعميق الصراعات الطائفية داخل الدول العربية والترويج للخطر المذهبي الذي تتهم إيران بقيادته، في حين تسعى الأخيرة لتأسيس شراكة مع حلفائها لمواجهة خطر سعي الإسرائيلي للتحالف مع "محور الاعتدال العربي"، وترى أنَّ القضية الفلسطينية هي أول من سيدفع ثمن هذا التحالف. أما الأطراف العربية، فهي ترى الدور التركي موازناً إقليمياً، ويمكن الاعتماد عليه في مواجهة المشروعين الإسرائيلي والإيراني.
فيينا وأوراق إيران
ذهبت إيران إلى محادثات فيينا متسلّحة أولاً بالتماسك السياسي والاجتماعي - الاقتصادي في وجه الضغوط والعقوبات الأميركية التي ألزمت بها المجتمع الدولي، ومنها الدول الأوروبية ألمانيا فرنسا وبريطانيا. ومتسلحة ثانياً، بالتقدم في القدرات النووية، منذ أن قرَّرت الرد على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي بالتخفيف من التزاماتها الواردة في ذلك الاتفاق.
ثالثاً، أدت الاتفاقية الاستراتيجية الإيرانية مع الصين دوراً في توفير القدرة لإيران على تحدّي حظر تصدير النفط والحصول على مساعدات مهمة، وكذلك فعل الروس في تقوية الصمود الإيراني سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
رابعاً، نجح الإيرانيون في تحقيق تقدم كبير في قدراتهم النووية، جعل الأطراف الأخرى أكثر حرصاً على جذب إيران إلى التفاوض، خشية أن تصل في الوقت الفاصل إلى مستوى نوويّ متقدم، لا تكون إزاءه بحاجة للعودة إلى الاتفاق النووي. وقد أثبتت إيران أنها قادرة على مواجهة أية تحديات عسكرية، كما حدث عندما أرسلت الولايات المتحدة قاذفة عملاقة من طراز "B-1" قادرة على حمل قنابل نووية، ترافقها طائرة من طراز "إف 15"، إلى أجواء الخليج.
خامساً، استطاعت إيران أن تجعل حلفاءها الإقليميين في جبهة الممانعة متضامنين وحاضرين مباشرة في أيِّ حرب قد تقع بينها وبين "إسرائيل".
سادساً، كشفت جولات المحادثات الستّ التي سبقت العودة مجدداً إلى فيينا قدراً كبيراً من الدعم والمساندة الروسية والصينية للمفاوضين الإيرانيين، وتأكّد ذلك في جولة التفاوض السابعة التي اختُتمت في 17 كانون الأول/ديسمبر 2021.
استند هذا الدّعم إلى علاقات ثنائية بين إيران وكلٍّ من روسيا والصين، تحوّلت إلى شراكة استراتيجية بين إيران والصين. ويُنتظر توقيع إيران عقد شراكة مماثلة مع روسيا. وقد أصبح من الضروري تطوير العلاقات بين إيران وروسيا والتركيز على الشراكات الاستراتيجية وعلى عضوية إيران في "منظمة شنغهاي للتعاون".
سابعاً، حرصت إيران على التنسيق مع الحليفين الروسي والصيني، كذلك على العلاقة مع تركيا الداعمة، إذ أدَّت تركيا منذ العام 2010 دوراً في دعم إيران ضد العقوبات، ورفضت وضع الدرع الصاروخية في أرضها للتجسّس عليها، ودعمت العودة إلى الاتفاق النووي خدمة للمصالح المشتركة بين البلدين.
أما ملف العلاقات المتوترة وغير المستقرة مع دول الخليج، فقد كان حاضراً في المفاوضات، فالسعودية والإمارات والبحرين تربط بقوة بين الملف النووي الإيراني وما تعتبره مشروعاً إقليمياً إيرانياً تتدخّل من خلاله إيران في الشؤون الداخلية للدول الخليجية، لكن سلطنة عمان، ثم قطر والكويت، تحاول التعاون مع إيران. وقد أقدمت السعودية على إجراء 4 جولات محادثة مع إيران عبر وساطة عراقية، وتلوح الجولة الخامسة في الأفق، ولا سيما مع توقيع الاتفاق.
إيجابيات العودة إلى الاتفاق النووي
تعتبر إيجابيات العودة إلى الاتفاق أكثر من سلبياتها بالنسبة إلى إيران وحلفائها، بدءاً بتخفيف العقوبات المالية والنفطية الأميركية أو إزالتها، وهو أمر ضروري لإيران، بعد أن انكمش الاقتصاد بسبب الانسحاب الأميركي من الاتفاق 2018. ومع اقتراب أسعار النفط من 100 دولار للبرميل، يتوقع الرئيس الإيراني مكاسب غير متوقعة، في حال كان هناك اتفاق، ويعتمد مستقبل إيران الاقتصادي على الاستثمار الذي يعتمد على تخفيف العقوبات. وخلال حملته الرئاسية، أكَّد الرئيس الإيراني الالتزام بخطَّة العمل الشاملة المشتركة، واعتبر أن إيران بحاجة إلى حكومة قوية لإغلاق الصفقة وتنفيذها.
لا شكّ في أنَّ العودة إلى الاتفاق ستنهي العقوبات على إيران، وستتمكَّن الأخيرة من استعادة قدراتها الاقتصادية والمالية، كما أنَّ الاتفاق لم يمسّ القدرات الصاروخية البالستية والسياسة الإقليمية لإيران، ولم تدخل أطراف جديدة فيه، وستحتفظ إيران في إثره بمنشآتها النووية السلمية. وقد تعهدت بعدم تجاوز الاتفاق مقابل إلغاء العقوبات الذي سيمنع "إسرائيل" من أيّ تهديد لهذه المنشآت. وأخيراً، يستطيع هذا الاتفاق أن يحدث خرقاً كبيراً في العلاقات العربية الإيرانية، وأن يحدث تحسناً إيجابياً، وخصوصاً مع السعودية.