المسيّرة "حسان".. مرحلة جديدة في الصراع
حسن لافي
نوعية الرد الإسرائيلي الباهت على إعلان حزب الله إطلاق المسيّرة "حسان"، والذي اتَّسَم بعرض عضلات سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي فوق بيروت، من دون القدرة على استخدام تلك العضلات، ما هي إلاّ دليل واضح على تَأَكُّل قوة الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله.
تجوّلت الطائرة المسيرة "حسان"، والتي أطلقها حزب الله، بعمق 70 كم ولمدة 40 دقيقة في سماء الإسراء والمعراج، وعادت المسيرة "حسان" إلى بلاد الأرز بكل أمان، تاركة وراءها صواريخ القبة الحديدية "تامير" تعتصر مرارة فشل محاولاتها إسقاط المسيّرة.
وأيضاً لتؤكد خيبة درة تاج القوة العسكرية الإسرائيلية (سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي) في العثور على المسيرة، والتي لم يبقَ من أثرها إلا صفّارات الإنذار، و رعب المستوطنين، وزيادة قناعتهم بعدم قدرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على توفير مظلة حماية لجبهتهم الداخلية.
لكن، على الرغم من أهمية ما أحدثته المسيّرة "حسان" في معركة كيّ الوعي الصهيوني، واهتزاز الثقة بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فإن تأثيرات المسيّرة "حسان" ودلالاتها، في حقيقة الأمر، أعمقُ من ذلك كثيراً.
لا يمكن إدراك تأثيرات المسيّرة "حسان" ودلالاتها، بمعزل عن حدثين مهمين:
الأول، ما نقله المحلل العسكري الإسرائيلي، أمير بوخبوط، عن مصادر عسكرية في شعبة العمليات التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، ومفاده أن حزب الله بدأ كشفَ منظومة صواريخه المضادة للطائرات في الميدان، من دون اكتراث لانكشافها، كتأكيد لسعيه الحثيث لتغيير المعادلة في سماء لبنان.
الثاني، خطاب الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في مهرجان "إحياء ذكرى القادة الشهداء"، والذي أكد فيه فشل استراتيجية "المعركة بين الحروب" الإسرائيلية في مواجهة حزب الله، ومنعه من تطوير قدراته العسكرية النوعية، والساعية لكسر تفوق جيش الاحتلال الإسرائيلي، عسكرياً وتكنولوجياً.
تجدر الإشارة إلى أن استراتيجية "المعركة بين الحروب" هي الخيار المتبقّي لجيش الاحتلال الاسرائيلي لمواجهة حزب الله، في ظل عدم جاهزيته للحرب المفتوحة مع حزب الله، والأهم عدم قدرة الجبهة الداخلية الإسرائيلية وعدم رغبتها في دفع ثمن تلك الحرب.
في ضوء ما سبق، نعتقد أن المسيّرة "حسان" دشّنت مرحلة جديدة في صراع حزب الله مع "إسرائيل"، من خلال:
أولاً، بدأ حزب الله مسارَ إحراز نقاط في معركة التفوق التكنولوجي العسكري على حساب "إسرائيل". فعلى الرغم من أن طائرة "حسان" صغيرة، وذات مهمّات استطلاعية، فإنه تم تصنيعها بعقول مهندسي حزب الله وأياديهم، وفي الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يفتح المجال أمام تطوير صناعة المسيّرات لدى حزب الله، كما حدث سابقاً في تطوير صناعة الصواريخ، وصولاً إلى قدرة حزب الله على تصنيع الصواريخ الدقيقة، وخصوصاً أن المسيّرات اليمنية ومداها وقدراتها القتالية حاضرة بقوة في المخاوف الإسرائيلية. وهنا تبرز معضلة "إسرائيل" في أنها، حتى لو استطاعت تدمير المنشآت والمقدِّرات المادية لمشروع الطائرات المسيَّرة، من خلال عملية عسكرية في إطار "المعركة بين الحروب"، إلاّ أنها لن تتمكن من منع امتلاك عقول حزب الله تلك التقنية.
ثانياً، تُعَدُّ أُولى مهمّات سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي حماية أجواء "إسرائيل"، لكن الحقيقة أنه تم تحديد جزء قليل من سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي لهذا الدور الدفاعي، في مقابل الدور الهجومي لهذا السلاح فعلياً. لذلك، تسعى "إسرائيل" دوماً لتأكيد تفوُّق سلاحها الجوي من خلال استراتيجية اليد الطولى، والتي تسمح له بتنفيذ أي مهمّات، وفي أيّ جبهة، وفي أيّ عمق، من دون تحديات لقدراته، بالإضافة إلى حرصها المستمرّ على المحافظة على سياسة السماء المفتوحة أمام طائرات سلاحها الجوي القتالية والاستطلاعية في كل الجبهات من دون مهدِّدات. ومنذ تراجع الجيوش العربية كتهديد استراتيجي لـ"إسرائيل"، لا يوجد تهديد فعلي لسلاح جو الاحتلال الإسرائيلي، كون أن العدو الاستراتيجي الحالي لـ"إسرائيل"، والمتمثل بحركات المقاومة، لا يمتلك القدرة العسكرية على تهديد سياسة السماء المفتوحة للطيران الإسرائيلي. لذلك، اعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي، في خططه العسكرية الهجومية، على سلاح الجو، سواء في استراتيجية "عقيدة الضاحية" في حرب تموز/يوليو 2006م، أو سياسة "الأرض المحروقة" في حروب غزة، وخصوصاً بعد أن تراجعت القدرة الهجومية لسلاح البر الإسرائيلي.
وبالتالي، يُعَدُّ امتلاك حزب الله منظومةَ صواريخ مضادة للطائرات من جهة، وتصنيعه للطائرات المسيَّرة، من جهة أخرى، عبارة عن تدشين مرحلة المقاومة الجوية، التي إن استمرّ حزب الله في تطويرها فمن المؤكد أنها ستهدد سياسة السماء المفتوحة لسلاح جو الاحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً، من الجدير بالانتباه أن مهمة المسيّرة "حسان" كانت استطلاعية، من أجل جمع معلومات من خلف خطوط العدو الإسرائيلي، وفي عمق 70 كم داخل الأراضي المحتلة. وهذا يطرح تساؤلاً: لماذا يسعى حزب الله لجمع بنك أهداف تفصيلية داخل الكيان الصهيوني؟ تؤكد مراكز الأبحاث الإسرائيلية، منذ عام 2019م، أن هناك تحوُّلاً حقيقياً وملموساً تجاه الاستراتيجية الهجومية داخل خطة الحرب لدى حزب الله، إلى درجة أن بعض الإسرائيليِّين حذَّر من أخذ حزب الله زمامَ المبادرة الهجومية في الحرب المقبلة. وفي ذلك السياق، يتم استحضار مشروع تحرير الجليل، وكتيبة "الرضوان" للمهمّات الخاصة، والحديث عن الأنفاق الهجومية لدى حزب الله. والآن، بات لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤشرٌ جديد، من خلال مهمّات الطائرة المسيّرة "حسان"، مفاده أن النزعة الهجومية لدى حزب الله تتعاظم، الأمر الذي يدلّ على أن حزب الله بات واثقاً بقدراته العسكرية أكثر من أي وقت سابق.
رابعاً، إن نوعية الرد الإسرائيلي الباهت على إعلان حزب الله إطلاق المسيّرة "حسان"، والذي اتَّسَم بعرض عضلات سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي فوق بيروت، من دون القدرة على استخدام تلك العضلات، ما هي إلاّ دليل واضح على تَأَكُّل قوة الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله. وهذا تأكيد صريح مفاده أن استراتيجية "المعركة بين الحربين" لا تسمح للجيش الإسرائيلي بإتمام عملية ترميم قوة الردع تجاه حزب الله، الذي استطاع الاستفادة من محدودية هامش استخدام "إسرائيل" للقوة العسكرية في إطار استراتيجية "المعركة بين الحربين"، من أجل منحه القدرة على تكريس معادلة ردع حقيقية تجاه "إسرائيل"، في الجبهة اللبنانية.