المواجهة وحتمية التغيير.. رؤية روسيا والصين
وسام إسماعيل
الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تسعى للتقليل من آثار تراجع موقعها المهيمن، عبر استراتيجية تستند إلى ضرورة الوجود النشط على حدود الدول المناوئة.
لم يعد من المنطقي توصيف المسار التصاعدي للعلاقات الصينية الروسية ضمن إطار المصالح المتبادلة، من دون الإشارة إلى أثرها الفاعل في واقع العلاقات الدولية المحكومة لنوع من التجاذبات، بين مشروع منكفئ تشكل الولايات المتحدة، ومن خلفها محور القوى الغربية، أحد أقطابه، ومشروع صاعد عماده محور صيني روسي، وأطرافه مجموعة من قوى إقليمية، يجمع بينها شعور بضرورة التحرر من هيمنة الولايات المتحدة والقوى الغربية على القرار العالمي.
ولأنَّ الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية حرصت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي على ربط السلم العالمي والاستقرار الدولي بوحدانية هيمنتها على العالم، عبر أفكار فوكوياما وهنتغتون والمحافظين الجدد وغيرهم، فإنّ الإدارات الأميركية حرصت في علاقاتها الدولية على منع قيام أية قوة مناوئة لسياساتها أو تطورها، عبر إقناعها بعدم جدوى السير في مشروعها أو عبر تهديدها باستخدام القوة ضدها، من أجل منعها من الوصول إلى مبتغاها.
ولأكثر من عقد من الزمن، التزمت القوى الدولية، ومنها روسيا والصين، بقواعد اللعبة الأميركية، لأسباب مختلفة، ترتبط بمجملها بأسباب خاصة وداخلية، فالحاجة الروسية إلى فترة للتعافي من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي تزامنت مع القرار الصيني بالتركيز على بناء الدولة، وعدم الانغماس في أي خلاف دولي يمكن أن يساهم بطريقة سلبية في عملية النمو وبناء البيت الداخلي.
وإذا كان الطرفان الصيني والروسي عمدا حتى العام 2001 إلى استخدام الدبلوماسية المرنة كوسيلة لمواجهة الولايات المتحدة والغرب، فإنَّ جملة من المعطيات دلت على قرار مشترك بالتأسيس لمرحلة من الندية التي تمثل التعددية القطبية جوهر أهدافها.
وفي هذا السياق، لم تتوقف الدولتان عن السعي لتعزيز علاقاتهما، على أن المرحلة التي تلت وصول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الحكم شهدت تكثيفاً للقاءات ثنائية بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ إن عددها وصل مع اللقاء الأخير إلى 36 لقاء. وبالنظر إلى الأهداف الاستراتيجية لهذه اللقاءات، فإن عدداً من المسائل تم التركيز عليها، بما يؤكد شهية الطرفين لتكريس أسس مختلفة لنظام دولي جديد.
على مستوى المبادئ الأساسية، يحرص الطرفان على ضرورة التمسك بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وضمان احترام المصالح المتبادلة، إضافة إلى التشديد على تحويل الحدود المشتركة بين البلدين إلى حزام دائم للسلام وحسن الجوار. وإذا ترافق هذا التوافق السياسي مع خطوات حثيثة لتعزيز الارتباط بين البلدين على كل المستويات، ومنها الاقتصادية، إذ تخطى النمو في أشهر السنة الماضية حدود الـ30%، ليصل التبادل التجاري إلى عتبة 123 مليار دولار، فإنه، أي هذا التوافق، لم يلتزم حدود العلاقات الثنائية بينهما، إذ انعكس توحيداً للرؤى حول مجمل القضايا الدولية، فيما يمكن تشبيهه بمحاولة لاختراق أسس العولمة الأميركية وقواعد إدارتها للعالم، من أجل فرض رؤية تناسب هدفهما الأسمى المتمثل بتعديل التوازن الدولي المائل لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تسعى للتقليل من آثار تراجع موقعها المهيمن، عبر استراتيجية تستند إلى ضرورة الوجود النشط على حدود الدول المناوئة، فإن الجانبين الروسي والصيني سرعا ما يمكن اعتباره اندماجاً استراتيجياً بينهما.
وبناء عليه، إن التوافق بين الدولتين على مقاربة مشتركة، والمنطلق من سعيهما لضمان الموقع أو المجال الحيوي الذي يناسب قدراتهما العسكرية الاقتصادية والجيوستراتيجية، شكل سمة مميزة لموقفهما من القضايا التي فرضت نفسها على الساحة الدولية، من احتلال العراق إلى أفغانستان، وصولاً إلى إشكالية البرنامج النووي الإيراني والأزمة السورية والأزمة المستجدة في أوكرانيا.
وبالنظر إلى هذه القضايا، فإن واقع تحليلها مجتمعة، من دون الغوص في التفاصيل والسمات الخاصة بكل منها، يطرح إمكانية اعتبارها كخانات تتشكل منها رقعة شطرنج عالمية، يمثل الانتصار فيها انتصاراً لأحد المشروعين، فالطرف الأميركي المرتاب من خسارة موقعه المهيمن على النظام الدولي، يحاول الضغط على خصومه، عبر إثارة نوع من الفوضى أو إشغالهم ببعض القضايا التي تمس أمنهم القومي بشكل مباشر.
وبالعودة إلى الوجود الأميركي في أفغانستان منذ العام 2001، يمكن الجزم أنه لم يكن موجهاً لمحاربة الإرهاب أو بناء الدولة في هذا البلد المدمر، إذ إن الخروج منه لم يأتِ بعد تحقيق هذين الهدفين. وفي السياق نفسه، يمكن تحليل الوجود الأميركي قرب السواحل الصينية وتوقيعه اتفاقية "أوكوس" مع أستراليا والمملكة البريطانية، أو حتى ممارسة الضغوط على الجمهورية الإسلامية، أو محاولة إسقاط الدولة في سوريا. وإذا دخلنا في تحليل فصول الأزمة في أوكرانيا ومحاولة تمدد حلف شمال الأطلسي نحو الحدود الروسية، فإن الأمر لن يخرج عن مسار المخطط المرسوم لما سبق أن ذكرناه.
وعلى الرغم من الاختلاف في الأهداف بين الدولة الصينية الطامحة، عبر ما تختزنه من إمكانيات اقتصادية وعسكرية، إلى شغل موقع مؤثر في النظام الدولي وضمان مجال حيوي اقتصادي يتخطى جوارها القريب نحو آسيا وأوروبا وأفريقيا، والدولة الروسية المتعطشة للعودة إلى الدور الذي شغله الاتحاد السوفياتي لحوالى نصف قرن، فقد أجاد الطرفان، الروسي والصيني، مقاربة ملف التجاذبات الدولية والإقليمية وفق منظور مشترك لا يتعارض مع رؤيتيهما، فالخطاب المشترك لكلا الدولتين المرتابتين من خرق الولايات المتحدة لمجالهما الحيوي، وسعيها الدائم لاحتوائهما، أسس لمرحلة من التكامل توجت بلقاء منذ عدة أيام شهد توقيع معاهدة تؤكد أحقية كل منهما بتايوان وأوكرانيا.
وفي سياق هذا اللقاء، أمكن إدراج الموقف الرافض لدور حلف شمال الأطلسي وتأثير معاهدة "أوكوس" في أمنهم القومي، إذ إن هذه الأدوات، وفق وجهة النظر الروسية والصينية، تعبر عن القوة الفعلية الأميركية المزعزعة للأمن الجماعي العالمي، فالفلسفة الأميركية والغربية لدور الأحلاف والاتفاقيات الأمنية تفترض إرساء مفهوم للأمن والسلم الدوليين، بما يناسب مصالحهم الحيوية، وبما يهمل أي احترام لمبادئ الأمن الجماعي المكرسة في القانون الدولي.
وإذا أضفنا سلاح العقوبات الأحادية ضد الدول المناوئة للسياسات الأميركية والغربية، فإن الموقف الروسي- الصيني يفترض اعتداء على سيادة الدول وتجاوزاً لمبادئ القانون الدولي ذات الصلة. ولذلك، هذا اللقاء شهد الإعلان عن اتفاقية تشكل في جوهرها إعلاناً عن رفض الأسس الحاكمة للنظام الدولي الحالي.
إذاً، ومن خلال مسار العلاقة بين الدولتين الصينية والروسية، يمكن الجزم أن النظام الدولي لن يستقر على أسسه الحالية، فالاندفاعة الصينية الروسية وقرار المواجهة المباشرة عبر أوكرانيا أو تايوان، أو عبر قضايا أفغانستان والنووي الإيراني، تؤكد جدية القرار بالتغيير.
وإذا واجهنا هذا المعطى بواقع الولايات المتحدة المتراجع على مستوى النظام الدولي، نتيجة فقدانها القدرات التي مكنتها في المرحلة السابقة من إخضاع منافسيها، إضافة إلى فقدانها الدافع والرغبة في الحفاظ على سياساتها التدخلية بشكلها الواسع، فإن النظام الدولي يسير نحو التغيير بخطوات روسية وصينية سريعة، في حين تسعى الولايات المتحدة لإبطائها من أجل التقليل من خسائرها واكتساب بعض الوقت لترتيب موقعها الدولي في المرحلة المقبلة.